مقالات

المجتمع المدني وإشكالية التعريف

بقلم: د. زاهي بشير المغيربي

المجتمع المدني وإشكالية التعريف

بقلم: د. زاهي بشير المغيربي

يٌعرّف المجتمع المدني على أنه مجال من الروابط غير الإرثية وغير الأولية المنظمة تنظيما رسميا. غير أن هذا التعريف الذي يركز على الروابط والمنظمات الرسمية الحديثة التي تنخرط في العمل العام وتتعامل مع الدولة على المستوى الوطني، يخلق نظرة ضيقة ومحدودة للسياسة تتجاهل التأثيرات المتشابكة للطبيعة الأثنية والجندرية على العمليات السياسية، وتتجاهل الأهمية المحتملة والممكنة لطرق الترابط الأقل رسمية في إحداث التغير الاجتماعي والسياسي. فهذا التعريف لا يميز منظمات المجتمع المدني عن الدولة فحسب، ولكنه يميزها أيضا عن العدد الضخم غير المتبلور من الروابط غير الرسمية والإرثية والأولية، بافتراض أن المنظمات والروابط “الحديثة ” تتجاوز في أهدافها وأفعالها أي ارتباطات أولية وإرثية، وتقوم بتعبئة المواطنين حول مصالح مشتركة ذات طبيعة مهنية أو اقتصادية أو خيرية، وتقوم باجتذاب الأفراد من الحياة الخاصة إلى الحياة العامة. إن هذا التصور للمجتمع المدني مشتق جزئيا من الافتراض التحديثي الضمني بأن الأشكال الترابطية الأولية والإرثية لا تجسد التقليدية والتخلف واللاعقلانية فحسب، ولكنها أيضا تعرقل تشكيل وفعالية جماعات المصالح التي قد تدفع نحو المزيد من خضوع الدولة للمساءلة.

إن النزعة نحو محو وإلغاء الخصائص الأولية والإرثية للمؤسسات “الحديثة” ظاهريا يؤدي إلى فهم مشوه للديناميات الاجتماعية للعمليات السياسية. فالميول الطبقية والإثنية والجندرية والدينية والإيديولوجية والشخصية تتغلغل جميعها في منظمات المجتمع المدني، مثل تغلغلها في الدولة. إن تخيل عدم وجود انشقاقات وتشققات قبلية وإثنية وسياسية داخل المجتمع المدني يعمل على تعزيز فكرة المجتمع المدني المنسجم المتناغم في مواجهة دولة المحسوبية والتعسف، ويفشل في إدراك الديناميات المعقدة والمتشابكة لعمليات التغير الاجتماعي والسياسي.

إن التصورات المفهومية للمجتمع المدني، والتي تحدده في إطار المنظمات الرسمية، تؤدي إلى استبعاد طرق الترابط الأقل رسمية عند تحليل التحولات السياسية والاجتماعية. غير أن أهمية الروابط والعلاقات الأولية والإرثية تبرز بصورة أوضح في السياقات التي تقيد فيها سياسات الدولة الروابط الرسمية، حيث توفر التجمعات غير الرسمية والمناسبات الاجتماعية المختلفة ساحات مهمة للمناقشات السياسية ولتوكيد الهويات الاجتماعية والسياسية. لذلك، فإن الارتباطات والأشكال الإرثية والأولية قد تكون، في مثل هذه السياقات، أكثر أهمية وفعالية من المجتمع المدني المنظم رسميا الذي يتصوره ويشجعه العلماء الاجتماعيون. فالتصور الليبرالي الديمقراطي الغربي للمجتمع المدني، الذي يستند على فكرة الفرد المستقل العقلاني، ليست له صلة بواقع معظم بلدان العالم الثالث، حيث تتداخل الهوية الشخصية مع الهويات الاجتماعية ووفقا للعلاقات القرابية والعشائرية والقبلية. بدلا من ذلك، وإذا أردنا أن يكون المجتمع المدني مفيدا كأداة مفهومية تحليلية لفهم السياسة في العالم الثالث المعاصر، فيجب إعادة صياغته بحيث يشمل جميع الهويات الجماعية، الإرثية منها والحديثة، وجميع الروابط، الرسمية منها وغير الرسمية، على حد سواء.

إن ميل الباحثين إلى استبعاد النشاطات الترابطية القائمة على أسس قبلية أو عشائرية أو قرابية من نطاق المجتمع المدني، يؤدي إلى خلق نظرة ضيقة جدا حول الاحتمالات الديمقراطية لمثل هذه التنظيمات، وحول القوى المحتملة للتغيير الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع. والواقع أن المجتمع المدني يقع ضمن سياق معين، وقوى الطبقة والقرابة يمكن أن تعزز قدرته على النضال من أجل الديمقراطية وتجذيرها. ولا يمكن أن يكون هناك افتراض مسبق بأن المجتمع المستند على روابط غير قرابية هو القادر فقط على تعزيز الديمقراطية.

في الواقع، لم يؤد التطبيق الإجرائي والعملي لتصور ومفهوم محدد للمجتمع المدني، أي التصور الليبيرالي الديمقراطي الغربي الذي يفترض وجود ساحة تضم أفراداً مستقلين وعقلانيين متجمعين حول مصالح مشتركة غير إرثية، إلى استبعاد الروابط الإثنية والطبقية والقبلية من مفهوم المجتمع المدني فحسب، بل إنه فشل أيضا في إدراك الإطار والمدى الكامل للفواعل الاجتماعية المؤثرة في عمليات التحول الاجتماعي والسياسي.

من جانب آخر، أثار الربط بين المجتمع المدني والدمقرطة خلافا وجدلا كبيراً. ففي حين حدد بعض البحاث عدة طرق يمكن من خلالها للمجتمع المدني أن يعزز الديمقراطية، مركزين على التصور الليبرالي لوظائفه المتمثلة في كبح وضبط قوة وسلطة الدولة، وتدعيم المشاركة السياسية، ومقاومة التسلطية، يرى آخرون، وبصورة مناقضة إلى حد ما، أن القوى الاجتماعية قد تكون عاملاً معززاً أو معرقلاً لعملية الدمقرطة. ففي الوقت الذي لا تهتم فيه الغالبية العظمى من منظمات المجتمع المدني بالقضايا السياسية المباشرة، فإن بين تلك المهتمة اهتماماً مباشراً بالسياسة وقضاياها، توجد منظمات مناصرة للديمقراطية جنبا إلى جنب مع المنظمات المناهضة للديمقراطية والمؤيدة والمتسامحة مع الحكم التسلطي. وعلى الرغم من أن بعض منظمات المجتمع المدني قامت، تاريخيا، بدور حاسمٍ ومهمٍ في عملية الدمقرطة، فلا يمكن افتراض أنها سوف تقوم بذلك دائما وفى جميع الأحوال، فالمجتمع المدني قد توجد به قوى ديمقراطية وقوى مناهضة للديمقراطية كما يتضح من نمو الجماعات الفاشية في ثلاثينيات القرن العشرين في إيطاليا وألمانيا والنمسا. كذلك أدت الاضطرابات الاجتماعية، التي نتجت عن التغيرات السياسية في أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي السابق، إلى بروز الجماعات العنصرية والفاشية والمضادة للديمقراطية. إضافة إلى ذلك، لا يمكن افتراض أن منظمات المجتمع المدني تعمل دائما وفق التقاليد والأطر الديمقراطية، ففي العديد من الحالات تهيمن على هذه المنظمات قوى وعلاقات المحسوبية والتحيز الطبقي والجنسي والإثنى مثل بقية المؤسسات في الدولة والمجتمع. كما أنها ليست بالضرورة أفضل من أجهزة ومؤسسات الدولة من حيث خضوعها لمساءلة أعضائها أو في تعزيزها لمشاركتهم في تحديد أهدافها وتسيير أنشطتها.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق