مقالات

الشراكة الاورو-متوسطية وليبيا

بقلم: د. جمال مفتاح العماري

الشراكة الاورو-متوسطية وليبيا

يشكل التعاون الدولي إحدى المسائل الأساسية والمهمة في حقل العلاقات الدولية كما أن اهتمام العلاقات الدولية كمادة علمية أكاديمية، يقوم على دراسة الجوانب النظرية للعلاقات الدولية، والتي تتضمن العديد من التيارات الفكرية المتنوعة. ولقد قسمت هذه التيارات، حسب اهتمام كل مجموعة، إلى ثلاث مدارس مختلفة، تميزت كل واحدة منها بمناقشة مفهوم التعاون الدولي من خلال استخدامها لمتغيرات متنوعة؛ المدرسة الواقعية ركزت على اعتبار الدولة هي الوحدة الأساسية والوحيدة التي تقوم بالتعاون الدولي؛ والمدرسة الليبرالية فأكدت على اعتبار الدولة والمؤسسات الدولية هي الوحدات الأساسية التي تقوم بالتعاون الدولي، لكنها ركزت، في مناقشاتها لمفهوم التعاون الدولي على أهمية المؤسسات الدولية كأساس لاستمرار التعاون الدولي. أما البنائية فهي تتفق مع المدرسة الواقعية في كون الدولة هي الأساس في التعاون الدولي، غير أنها أضافت لها عناصر أخرى مؤثره في أداء الدولة، مثل الهوية والقيم الاجتماعية وغيرها من المتغيرات الأخرى.

وفي هذا السياق يدور جدل علمي كبير حول أهمية التعاون الدولي وحاجة العالم إليه، وذلك لتحقيق المصالح المشتركة بين الوحدات الدولية. وتعتبر عملية إيجاد آليات مناسبة لهذه المسألة مهمة أساسية للمنظرين في حقل العلاقات الدولية، كما تعتبر وسيلة لإيجاد مناخ دولي يصبح فيه التعاون، في كافة المجالات، من القيم العليا التي يجب أن يقتدى بها على كافة المستويات.

ويمكن القول بأن التعاون في العلاقات الدولية يقوم، بشكل عام، على علاقات تبادلية بين الدول بحسب الإمكانيات المتاحة والأهداف المرجو تحقيقها، فهي تستند على العديد من العوامل، منها ما هو طبيعي كالعامل الجغرافي والتاريخي، ومنها ما يرتبط بالمصالح المشتركة والمتبادلة بين مختلف الوحدات السياسية، وخصوصاً المتجاورة.

وفي هذا السياق، قامت فكرة “الشراكة الأوروبية”؛  فكرة التعاون والشراكة التي طرحها الأوربيون في مواجهة كل من “الأطلسي والشرق أوسطية”، على أساس فلسفة ذات أبعاد سياسية واقتصادية؛ أبعاد تهدف إلى القيام بجهد مشترك لتحقيق استقرار أمني ينعكس ايجابياً على ضفتي المتوسط (شمالاً- جنوب شرق)، وعلى منطقة التبادل التجاري الحر بين الطرفين، وذلك لدفع مخاطر الاقتصاد العالمي المفتوح الذي يمكن أن تتعرض لها دول المنطقة وتحد من قدراتها التنافسية.

استقطب موضوع الشراكة اهتمام الساسة والخبراء والباحثين، لما لها من أهمية يمكن أن تؤثر على توجهات مستقبل عدد كبير من الدول المتوسطية. فهو يمثل تطورا هاما على نمط العلاقات بين الشمال والجنوب ومستقبلها كدول وكيان. ولهذه الغاية، فإن من المفروض أن تتعرف جميع الدول المعنية على محتوى هذه الاتفاقيات، وأن تستوعب طبيعة الآثار السلبية أو الايجابية التي ستترتب عنها، وذلك كله بغية  ترتيب أوضاعها، ومراجعة سياساتها الداخلية والخارجية، وبالتالي الاستفادة مما قد يتيحه النظام الجديد من فرص، وتفادي ما قد ينتج عنه من أضرار.

تشكل الشراكة الأورو-متوسطية (PARTENARIAT  EURO-MEDITERRANEEN) المسماة أيضا “بعملية برشلونة” والتي تأسست عام 1995، أكثر مساعي الاتحاد الأوروبي شمولية لإعداد مفهوم إقليمي عالمي لحوض البحر المتوسط، وقد أعدت هذه الشراكة نموذجاً طموحا لكيفية صياغة السياسة الخارجية الأوروبية المشتركة مستقبلاً تجاه دول خارج الاتحاد الأوروبي، بحيث تتبع سياسة التوجه الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي نحو المنطقة المتوسطية تطور عملية التكامل والاندماج الأوروبي، ومن ثم بروز الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية قادرة على أن تؤدي دورا مهما في السياسات العالمية. وقد نصت هذه الشراكة على فتح الأبواب أمام دخول سلع الدول المتوسطية إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، والاستفادة من الاستثمارات المتبادلة، ونقل المعرفة والمهارة، وتفاهم أوسع في الميادين الثقافية والحضارية والإنسانية، فضلاً عن التعاون في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بهدف إقامة منطقة وسلام وتبادل تجاري حر.

ونظرا لأن ليبيا تتمتع بموقع جيو-استراتيجي متميز، أي أنها مطلة على البحر المتوسط ومتواجدة في وسط الشمال الأفريقي، ومتوفرة على أطول ساحل في الشمال الأفريقي ( قرابة 1900 كم)، فإنها تعتبر بمثابة الجسر الأمثل الذي يربط أوروبا بأفريقيا، وهو رباط تاريخي واقتصادي وسياسي وثقافي.

هذا، ويعد الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لليبيا، سواء من حيث الصادرات والوردات، أو من حيث قضايا الأمن الإقليمي والدولي، أو من حيث مكافحة الإرهاب وملفات الهجرة غير الشرعية، وما إلي ذلك مثل نزع أسلحة الدمار الشامل في سلم أولويات السياسة الأوروبية تجاه ليبيا. فكل هذه العناصر تشكل حافزاً للتعاون، وتفتح آفاقا واسعة أمام فرص توظيف واستثمار إمكانيات التعاون بين الطرفين.

إن علاقات ليبيا بدول الاتحاد الأوروبي مرت بمراحل توتر وأزمات منذ استيلاء العقيد معمر القذافي على السلطة في ليبيا عام 1969، حيث سادت هذه العلاقات مرحلة التباعد والاختلاف حول العديد من القضايا الإقليمية والدولية. في بداية التسعينيات من القرن الماضي طرأ على هذه العلاقات تغير جوهري، تمثل في اتهام النظام الليبي بالوقوف وراء العديد من العمليات الإرهابية التي طالت دولا أوروبية عدة، كان أبرزها ما عرف “بأزمة لوكربي”. حيث وجهت أمريكا وبريطانيا، في 28 سبتمبر 1991، مذكرة إلى ليبيا تبلغانها أن اثنين من مواطنيها ضالعان في حادثة تفجير الطائرة الأمريكية (بان أمريكان) أثناء قيامها بالرحلة (103) فوق مدينة لوكربي الاسكتلندية، وذلك في 21 ديسمبر 1988. وبعد فترة وجيزة من هذا الإجراء، انضمت إليهما فرنسا، متهمة، بدورها وبشكل رسمي، ليبيا بالضلوع في حادث تفجير الطائرة الفرنسية (UTA-772) فوق صحراء النيجر عام 1989، طالبت على إثر ذلك مجلس الأمن الدولي إجبار ليبيا على تسليم المتهمين.

وقد اتسمت هذه العلاقات في تلك الفترة بالتأزم، وتم فرض عقوبات دولية من قبل مجلس الأمن الدولي على ليبيا بسبب قضية لوكربي حيث حتمت حالة المواجهة المفروضة على ليبيا وسياسة الانغلاق والجمود، نشوء عزلة دولية أربكت عملية الانفتاح والتطور والتنمية في ليبيا. كان لهذه العازلة الدور الأساسي في تقليص حجم العلاقات بين الطرفين، وظلت هذه الأجواء تتراكم بشكل ملحوظ إلى أن أعلنت ليبيا رسميا، في عام 2003، استعدادها لدفع تعويضات مالية لأسر الضحايا، الأمر الذي جعل الموقف الأمريكي تجاه ليبيا يتغير بوتيرة سريعة، مما دفع بقية أطراف الأزمة من الدول الأوروبية لاسيما بريطانيا وفرنسا، إلى إتباع النهج الأمريكي. وفي هذا الاتجاه، قامت ليبيا عام 2004 بعدة خطوات نحو تحسين العلاقات الدولية والتجارية مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، حيث زار القذافي بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وقام عدد من رؤساء دول الاتحاد الأوروبي ورؤساء وزرائها ورؤساء الشركات العاملة في مجالات النفط والصناعات البيترو-كيماوية بزيارة ليبيا لبحث سبل التعاون بين الطرفين.

وفي عام 2008، انخرطت ليبيا في مفاوضات مكثفة مع الاتحاد الأوروبي، الهدف منها إبرام اتفاقية إطار بين الطرفين. فليبيا الدولة المتوسطية الوحيدة التي لم تبرم اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وبالتالي فإن هذا الأخير لازال يهدف إلي إبرام مثل هذه الاتفاقية مع ليبيا الجديدة، بعد أحداث 17 فبراير2011، سواء تحت مسمى الإطار أو الشراكة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي التحديات والآفاق الجديدة لمشروع الشراكة في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية ذات الصلة بالفضاء الأورو-متوسطي؟

يبدو أن الإجابة عن هذا التساؤل تستدعي تسليط الضوء على موضوع التعاون الأورو-متوسطي بالنسبة لليبيا، والقواعد التي حكمتها خلال العقود الماضية من خلال دراسة البعد الإقليمي لواقع وأفاق التعاون الأوروبي- الليبي. كذلك الآفاق المستقبلية للتعاون بين الاتحاد الأوروبي وليبيا، وذلك من خلال معرفة التحديات والسيناريوهات المحتملة للشراكة الأورو-ليبية.

 

الدكتور جمال مفتاح العماري

باحث في القانون الدولي العام

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق