ثقافة وفنون

الشاعرة أميرة مصطفي.. ترسم فراشات ملونة تحلق في سماء القصيدة

بقلم: د. إبراهيم عطية

إن الشعر هو ما أدركه الوجدان تعبيراً عن النفس الإنسانية . وتعبيراً غن عواطفه وأفكاره القلبية التي تتحكم فيه أكثر من أفكاره الواقعية والعقليَّة، وينطلق من العاطقة التي تتمحو حول دائرة الشعور من حُب وعطف وحزن في سياق غنائي مصحوباً بإيقاع موسيقي يضبطه الأوزان والقوافي في سياق من التعبيرات الصادقة  الذاتية عن عواطف تفيض من بوح إحساسه ومنابع الوجدان فراراً من الواقع الزائف ولجوءه إلي الطبيعة ومناجاتها مستزيداً من أصالة الشعر العربي والتجديد والتحليق في عالم الفلسفة والعمق الوجداني، واللجوء إلي الخيال إننطلاقاً من مفهوم الشعر عندهم وهو لغة العاطفة والوجدان والخيال، ويمتاز بالصور الشعرية الممتدة والتعبير الفني الغني بالإيحاءات والألفاظ الحيَّة الي تنبض بالرقة والعذوبة ،تربطها الوحدة العضوية، حيث تسود وحدة المقطع لا وحدة البيت، فتكون وحدة الجو النفسي للقصيدة متناسقة مع مواقفها مما جعلها قريبة إلي النفس صدقاً وتعبيراً، وتترك بصماتها التاثيرية في وجدان المتلقي – القارئ  والسامع – وتحرك مشاعره الفطرية من حب وحنين وكره وعذاب نتيجة انفعال عاطفي وتوهج الذات الشاعرة تضفي عليها مسحة رومانسية تجدد عواطف النفس الإنسانية بتجدد الأيام والحياة .

والشاعر الوجداني يعمد إلي التشخيص، فيجعل الطبيعة تشاركه آلامه وأفراحه متوحداً معها، يعبر عنها كما يحسها وتشكلت في وجدانه .

وقد استوقفتني تجربة الشاعرة أميرة مصطفي في ديوان (الأميرة ترسم فراشات ملونة)، ووجدت تعبيرات انطلقت من مشاعر وجدانية من نفس إنسانية متأثرة بأسمي درجات الشاعرية وافعلها في النفوس وانفتاحها على أعماق الحياة ، نابعاُ من نشوة داخلية ولذَّة وجدانية متحدة بعناصر الطبيعة الشمس والعصافير والزهور.

إن الشاعرة تنظر إلي المجتمع البشري وتطل من نافذة وجودها، راصدة ما يدور فيه من روابط وصلات وما تسوده من عادات تحكم عليها من أفكارها وآراءها وعلاقات اجتماعية بنظرة تعكسها ثقافتها، تنفعل وتتأثر بما يمليه عليها المجتمع فتجيش في خلدها مشاعر وعواطف تعكسها قريحتها بشفافية يصوغها وجدانها في هيئة نص يتدفق من الذات عبر إحساس ومشاعر خاصة، أو صور ومشاعر وإحساس الآخرين، تلونها بخواطرها وأفكارها نابعة من حس شخصي  وتصوير نفسي صادق، يظهر شدّة المعاناة، وجيشان العواطف، وصدق التجربة، بعيداً عن التستر، والتكتم والمراوغة الرمزية، واعتراف قلب وبوح نفس، بشكل عفوي تلقائي، كما تبوح الزهرة للفراشات بأريج عطرها، وكما يغتي الطائر على أغصان الشجر .

ولا شك أن من بواعث هذه التجربة شدة الألم والمعاناة من مرارة تجربة الغربة، أو الاغتراب النفسي، الذي يدفعها إلي البوح بما يمور في النفس من شعور بالألم، والوحدة، والحب وغير ذلك من عواطف صادقة تلهب  القلب، وترقق الحسّ، وتصفي الوجدان .

والشاعرة تنطلق في نصوص تجربتها من وجدانها موحدة بين الذات والموضوع، يجعلها النبع والمصب في آنٍ واحد، لينسكب في ذوات الآخرين مسيطرة عليه العاطفة الجياشة المتدفقة من كيانها الشعوري، باعتباره بوح من كلمات القلب، واعترافات النفس، وأحياناً ابتسامات الفرح، أو  آهات الحزن، أو زمرة الهم، أو إشراقة الأمل، صادق شفاف، بعيداً عن التكتم والمراوغة ويعكس بوضوح ما يجيش به الصدر من أفراح واتراح وما يتطلع إليه من آمال ترسم لوحات شعرية ملونة بالفراشات، فنجدها في حيرة تصارع النسيان قائلة :

يصارعني النسيان

أتفقد أناملي و خطوط

الزمان

أين أنت أيها النهر الممتد

بين قلبي و عقلي..؟!

لتنتشلني

من ظلمة المكان.

تبدو لحظات التدبر، والوقوف مع النفس، تحس بالحيرة فسرد ما فعله النسيان بها وما تركه الزمان من خطوط، وتتساءل .. أين أنت أيها النهر الممتد بين قلبي وعقلي ..؟! بحثاً عن النجاة من الظلمة التي تحيط بها بعدما اختلطت الأشياء بنفسها تعكسها مرآة الذات، حتى تقول (استأمنتني الروح علي أحلامها و ألامها ) لقد استأمنتها الروح على أحلامها ، حيث تتمسك بالنزعة الذاتية فالحياة لا تحقق الآمال، وتكسو كلماتها نزعة حزن تدفعها للتمرد على الشعر بمفهومه التقليدي، والتحرر من قيود التقاليد بالنزوع إلي الرومانسية، هروباً من واقع مؤلم، وترسم لوحة فنية غاية في الجمال تستبكي العيون وتستمطر الدموع وتأخذ بلباب القلوب، تحرك ريشتها السحرية لتطلعنا على تفاصيل المأساة وتأخذنا إلي عمق الحدث وإبراز ما يؤجج لهب الوجد ودفق العواطف الرقراقة الصادقة متأثرة بموجات الأسى والكمد في النفس في دفقة شعورية نلاحظها في مقطع شديد المرارة تقول ..

كانت أخر قطرة من الدماء قد خدعتني

أرغمتني علي ترك الضوء تحت الأرض

و بيع الأحلام إلي الشيطان.

لتكشف النقاب عن أوجاعها حين خدعتها أخر قطرة من الدماء، وأرغمتها على ترك الضوء تحت الأرض وبيع الأحلام إلي الشيطان في مشهد مأساوي مؤلم، كأنها تعبر بأنشودة القلب الموجوع، بتنفيس انفعالي يصفي القلب ويطهر النفس من أوجاعها، تفجعاً وحسرة نابعة من ضمير يعبر عن ما في أعماق النفس وتشعر به من صميم كيانها في الوقت الذي تجد فيه أناس كما تقول ..

يسخرون من قلمي

لا يعرفون أن الحبر من دمي

والحروف أنفاسي

بروحي ارسم الكلمات

ولا ينطقها فمي.

إن أميرة مصطفي لم تكن في تجربتها الشعرية محدودة الإطار ، ولم تنحصر في نطاق ضيق، بل شكلتها رؤية فلسفية نابعة من عمق الفجيعة، التي فاضت بأوجاع من الحزن في ظل جائحة ” كورونا ” وما فعلته في البشرية جعلتها تبكي من لم تربطها صلة وثيقة بهم أو علاقة ودية ، وتجتاز عواطفها وإحساساتها ومشاعرها عندما تتفجع أو تتحسر على ما  البشرية، بعدما كثر الحديث عن الأحياء، فنلاحظ جيشان العواطف والتعابير الموسيقية العذية، والموت حقيقة رغم ما يخلفه من عبرات وآهات توجع النفس التي تفيض عطفاً ورقة وحناناً في كل مشهد مأساوي تراه في خطوط الأخبار عن أناس لا تعرفهم منتظرة اسمها بين الأموات لكن الموت يرفض زيارتها والطابور طوي من البشر انتظار للمصير الحتمي …:

كثر الحديث عن الأحياء،

والأموات،

والأشلاء المتناثرة في كل مكان

استيقظ علي خطوط الأخبار

تخبرني عن أناس لا اعرفهم

انتظر اسمي يومياً بينهم

لكن الموت يرفض زيارتي

والطابور طويل من البشر

في انتظار المصير.

إن الألم الذي يعم تجربة الشاعرة أميرة مصطفي وأصبح يفيض  أكثر بحالات نفسية حزينة، بسبب الجائحة المؤلمة التي ألمت بالكون، ورسخت خطوطها وأثارها البارزة، وجعلت تبرز سمات لفلسفة إبداعية متناثرة عبر تجارب شعرية جعلت الحياة أمام عينيها مواجع للاضطرابات والأشجان، ووجدت من أوجاعها الوجدانية، ينابيع تفيض بالإبداع ولا تنضب، تعبر عنها في نصوص شديدة بالصدق الشعوري تجاه ما تعانيه البشرية، وتدفعها إلي المقاومة والنهوض والتفاؤل والسرور في محاولة لصنع البهجة بصدق التجربة الإبداعية، تتجلي لحظات الصفاء حين تناجي الخالق، تقر بالذنوب ، وتلتمس العفو في عبارات وجدانية كاشفة عن تجربة ذاتية، تتشح بوشاح الرومانسية الصوفية الشفيف، تعود إلي الله مع ابتهالات تؤنسها في الوقت الذي تقر بإن الحياة لم تكن عادلة معها، رغم محاولاتها الجادة للصلح معها بابتسامة مزيفة والخطي التي تمطيها للأمام لا تكفي كقرابين، دائما تعطيها ظهرها وترحل عنها لغيرها، وتجلس وحيدة ، متضرعة ، تمد يدها بالدعاء بعد أن انهكها الصراع مع الحياة لباي تعطيها ظهرها لتعيد ترتيب نفسها المشتتة تستمع إلى ابتهالات تمدها بالحرية ونشوة بلا حدود ولذة من الحب الصافي ترويها، تقول منشدة ..:

لم تكن الحياة معي عادلة

رغم كل محاولاتي للصلح معها

ابتسامتي المزيفة…

البريق الخاطف في عيني..

دمائي الساخنة

الخطي التي امتطيها للأمام

كل هذه القرابين لا تكفيها

تعطيني ظهرها و ترحل عني لغيري

اجلس وحيدة بعد إن أنهكني الصراع

استمع إلي الابتهالات التي تمدني بالحرية

و النشوة بلا حدود

(مولاي أني ببابك قد مددت يدي…)

لمسه من السحر

)سقاني الغرام كأسا من الحب صافيا)

أعطي الحياة ظهري

و وجهي نحو السماء يرتجف

ولذة من الحب الصافي

إن القصيدة تبدو مناجاة تحمل تجربة ذاتية تبوح بأحزانها وشكواها من الحياة والهموم والسأم، وعاطفة مشبوبة بتأثير الحياة، متألمة حزينة قلقة، وأن الحياة محض أوهام، تغرقها في الأسى والتشاؤم لا ينقذها منها سوي الدعاء اللجوء إلي الله وسماع الابتهالات مستلهمة صدق التجربة الوجدانية في  تكوين النفس. وتستنهض ذاتها برسم فراشات ملونة تحلق في الفضاء أملا في ابتسامة تجدها في هاتفها المحمول فلا تجدها لكنها تخرج محلقة في الهواء بحثا عنها، وقد تدفعها ظروف الجائحة إلي ارتداء قناعا بلاستيكياً وقاءا من الإصابة من فيروس كورونا، فترسم ابتسامة حمراء، وتطير فرحتها الطفولية  التي تبدو  في هيئة فراشات ملونة كطفلة صغيرة في فستانها ترقص مع الزهور وحبات المطر التي تخترق خيمتها المظلمة فرخة بالعيد .. تقول ..:

تدور الأميرة الصغيرة بفستانها

فرحة بالعيد

ترسم فراشات ملونة

و زهور متراقصة مع الريح

تقفز فرحة بالحياة

تستيقظ علي قطرات المطر

تخترق سقف خيمتها المظلمة.

إن تجربة (الأميرة ترسم فراشات ملونة) تستنهض روح الإبداع المقاوم، وتخلق حالة من الانسجام النفسي، والتوافق الوجداني مع الحياة، محتفية بمفردات الطبيعة وعناصرها، وتجعلنا نتوقف كثيرًا أمام طبيعة ما يخلقه من توافق نفسي وهدوء وسكينة وجرعات من أكسير الحياة تعيد تخليق جينات الحياة داخل الإنسان من جديد.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق