شآبيب الرحمة
لا أحد في قريتي “سمنو” كان يعلم عن أي خاتمة يتحدث الرجل، وكل ما كنا نسمعه منه هو “إن شاء الله لخاتمة خير” وكان أحياناً يمدها طويلاً إنشاء الله لخاتمة خييييير.. نسأله عن حاله فيرد علينا إن شاء الله لخاتمة خير.. كيف حالك يا عمي “علي”؟ فيرفع رأسه فينا ويجيب إن شاء الله لخاتمة خير وكيف الاخبار إن شاء الله لخاتمة خير.. كان الحاج “على بن ايراهيم” أحد تجار القرية الثلاثة، ولم يُغلق دكانه حتى بعد أن أغلقت الدكاكين أبوابها، وكنا نمر عليه في طريق عودتنا من المدرسة ونسأله كيف حالك يا عمي “علي”؟ فيرفع رأسه فينا ويجيب إن شاء الله لخاتمة خير، لكن لا أحد في القرية كان يعلم عن أي خاتمة يتحدث هذا التاجر.
لم يبقوا له في الدكان سوى اربعة أجلام وعلبة اسطوانية مملوءة حلوة ونصف مقطع قماش وبقية من شوال حناء ونصف برميل من كيروسين يقف في الخارج عند باب الدكان، لكنه لم يُغلق بابه بل ظل يفتحه كل صباح ويعيد فتحه بعد صلاة العصر حتى أذان العشاء، ويعيد دعواته لله تعالى بأن يجعل الخاتمة خير.
امتهن الرجل منذ صغره التجارة، أحبها كما يحب أولاده ولا سبيل إلا أن يفتح دكانه حتى لو ظل خالياً من كل شيء، فالتجارة في عرفه ليس الربح وجني المال بل التداول والبيع والشراء والميزان والناس والسفر، لذلك لا سبيل لترك كل هذا حتى لو أخلوا الدكان من كل شيء.
توفي الرجل وبقيت دعوته في ارجاء القرية. خالت لنا كما لو انها تجوب الأجواء مع الحمام كل صباح، شهدناها تقف على قمم مآذن القرية مع الحمام، سمعناها أو سمعنا أصداءها تأتي مرة بعد مرة من جهة المقبرة وتحلق في فضاء القرية كنا نعتقد أنها ستختفي وتتلاشى مع الوقت لكنها بقيت حتى بعد مرور عشرين عاماً على وفاته.
وها نحن اليوم مدينون لهذا الرجل الذي ربما حافظت دعواته على أمن واستقرار القرية رغم الخاتمة الفظيعة التي كان يخشاها ورغم الفوضى التي تعم البلاد.
يوم أمس الجمعة بعد الصلاة وقفتُ وطلبتُ له الفاتحة. لم يسألني احد لمن الفاتحة يا ابراهيم لكنهم رفعوا ايديهم ووجوهم يستمطرون عليه شآبيب الرحمة.