الاتفاق الذي ولد ميتاً
إن الاتفاق السياسي الذي تم في الصخيرات بالرغم من أن التوقيع عليه من قبل لجنة الحوار قد مضى عليه ما يقارب من السنة قد لاحت مؤشرات فشله في الأفق منذ الاختلاف بشأن مسوداته ومن ثم جاء مخيباً لآمال الليبيين، فلم يحقق المرجو منه ولم يصل بليبيا إلى بر الأمان كما كان متوقعاً فالحرب لازالت دائرة ولم تضع بعد أوزارها ، بل إننا نسمع من حين إلى آخر بتجدد الاشتبكاكات بين المليشيات المسلحة داخل العاصمة وغيرها من المدن ولعل آخرها هو ما حدث في مدينة الزاوية، بينما كان من المفروض أن المجلس الرئاسي قد استلم السلطة في ليبيا بشكل فعلي، وأنه قد شرع في ممارسة صلاحياته التي منحها إياه إتفاق الصخيرات، لكن الواقع على خلاف ذلك إذ لم يتمكن من بسط سيطرته على الأوضاع الأمنية في ليبيا، بل لم يستطع ذلك حتى في العاصمة ذاتها والتي يدعي أنه يمارس سلطته الشرعية منها من خلال تواجده في منطقة (أبي ستة) التي لا تعدو أن تكون ضاحية من ضواحي العاصمة. فوفقاً للاتفاق يأتي في أوليات مهامه العمل على تحقيق الاستقرار الأمني في البلاد، وتطبيق الترتيبات الأمنية الذي يبدأ بإخلاء العاصمة من كافة المليشيات المسلحة الموجودة فيها، والعمل على انسحاب جميع التشكيلات المسلحة منها ومن كافة المدن والتجمعات السكنية والمنشآت الحيوية ورغم أن هذا يعد من أهم بنود الاتفاق السياسي إلا أنه عجز تماماً عن تحقيق ذلك، كما أنه مما يعاب على الاتفاق أن بعض مواده قد أحدثت نوعاً من البلبلة والتضارب في الآراء وقد أثارت جدلاً كبيراً بشأنها فعلى سبيل المثال لا الحصر ما ورد بإحدى فقرات المادة الثامنة من الاتفاق من حيث إسناد القيام بمهام القائد الأعلى للجيش الليبي إلى مجلس رئاســـة الوزراء واعتبـــار ذلك إحـــدى
اختصاصاته، وأيضاً ما ورد في المواد من (19 إلى 25) من الاتفاق من حيث اختصاصات المجلس الأعلى للدولة والتي تداخل بعضها مع الاختصاصات المنوطة بمجلس النواب باعتباره السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد، ولعل أهم الخروقات التي قام بها هذا المجلس أي مجلس الدولة هو مخالفته لما ورد بنص المادة (20) من الاتفاق حيث عقد أول اجتماع له دون مراعاة الميعاد المحدد لذلك، وقبل أن يقوم مجلس النواب بتعديل الإعلان الدستوري باعتباره السلطة التشريعية المختصة بذلك.
هذا من ناحية أما من الناحيتين الإدارية والتنفيذية فحدث ولا حرج إذ البلاد تعاني من حالة فوضى إدارية عارمة فالمؤسسات العامة والمصالح والإدارات الحكومية شبه متوقفة تماماً عن ممارسة أعمالها العاديةإذ يكتفي العاملون فيها بالازدحام أمام المصارف في طوابير طويلة لتقاضي مرتباتهم الشهرية دون أن يقوم الغالبية العظمى منهم بأداء أعمالهم.
وهذا الوضع الكارثي الذي تمر به بلادنا هو بسبب انعدام التفاهم بين المجلس الرئاسي ومجلس النواب الذي كما سبق القول هو السلطة التشريعية الوحيدة في البلاد والتي يجب أن يصل إلى تفاهم معها كي يستطيع القيام بأعماله، ولذلك فلم يكن بإمكانه تشكيل حكومة الوفاق المطلوبة – والمنوط بها تسيير الأعمال في الدولة الليبية وذلك منذ دخول الاتفاق حيز التنفيذ بعد قيام أطراف الحوار السياسي بإقراره واعتماده كاملاً والتوقيع عليه بتاريخ 17 ديسمبر 2015م. وهو الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأوضاع فهذا المجلس الرئاسي يتعايش الآن مع حكومتين إحداهما حكومة مؤقتة في الشرق برئاسة عبدالله الثني ، والأخرى حكومة إنقاذ في الغرب برئاسة خليفة الغويل التي تظهر وتختفي حسبما يروق لها. هذا فضلاً عن انعدام التوافق والانسجام المطلوب بين أعضاء المجلس الرئاسي نفسه بسبب ما يدور بينهم من خلافات شخصية حادة.
ومما تجدر ملاحظته على هذا المجلس هو أن جُلَّ اهتمام رئيسه وشغله الشاغل هو استجداء التأييد والدعم من الدول الأجنبية بحجة أن حكومة الوفاق معترف بها دولياً دون اكتراث بما يجب أن يحظى به من مساندة وتأييد شعبي في الداخل فقد أهمل تماماً الشأن الداخلي إذ لا يعير أدنى اهتمام لمشاكل المواطن الليبي وما يعانيه من أزمات خانقة في السيولة وفي الوقود وغاز الطهو وفي الكهرباء وفي الخبز بالإضافة الى غلاء الأسعار في السلع والمواد الضرورية بسبب ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية الذي وصل إلى معدلات مرتفعة جداً لم يسبق لها مثيل.
ولا يفوتنا كذلك أن نشير هنا إلى أنه بالرغم من مرور عديد السنوات على صدور الإعلان الدستوري وانتخاب الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور إلا أن هذا الدستور لم يكتب له الصدور حتى الآن رغم إنجاز صياغته من قبل الهيئة وتسليمه إلى مجلس النواب منذ مدة والسبب في ذلك هو الخلافات الدائرة بين أعضاء الهيئة التأسيسية ذاتها والتي حالت دون وصولهم إلى توافق تام بشأن بعض مواده.
وتحاشياً للإطالة والسرد الممل فإنني اكتفي بما دونته من ملاحظات عابرة ومختصرة خطرت لي حول هذا الاتفاق لأخلص بعد ذلك إلى القول بأن اتفاق الصخيرات قد وصل إلى طريق مسدود بسبب ما مُني به من فشل ذريع… وما دمنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة المخيبة لآمال الليبيين فإنه لا مناص من إنهاء فصول مسرحياتهوإسدال الستار عليه، وصرف النظر عنه تماماً واعتباره كأن لم يكن، ولا ضير في ذلك ولا حرج فهو ليس بالقرآن المنزل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بحيث لا يجوز إستبداله أو الخروج عليه وبالتالي فإنني لا أرى مانعاً من إعداد اتفاق سياسي آخر بحيث يخلص الشعب الليبي من معاناته التي زادت عن حدها ، كما يستجيب لكافة متطلبات المرحلة
الانتقالية التي طال أمدها ، ودون إهمال لمجريات الواقع الراهن وبمراعاة تجنب كافة المثالب والعيوب التي اكتنفت اتفاق الصخيرات كما ينبغي أن يتم إعداده من قبل لجنة حوار جديدة، تعقد اجتماعاتها داخل ليبيا وبحيث تضم أطرافاً فاعلة بحكم علمها أو خبرتها أو كفاءتها بالإضافة إلى ما لها من سمعة وطنية لذا فينبغي أن يتم تشكيلها من مختلف فعاليات الشعب الليبي بحيث يكون أعضاؤها ممثلين لفئات الشعب المختلفة كالثوار وأعضاء مجلس النواب وعلماء في الشريعة وأهل الرأي والفكر وأساتذة الجامعات ورجال القضاء وسائر النقابات ومنظمات المجتمع المدني بشرط أن يتم اختيار الممثلين عن الفئات المذكورة بعنايةووفق أسس واضحة وجلية ومعلنة للجميع وليس هناك ما يمنع من الاستعانة بخبراء من الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتحدة كما يجب التنبيه على أن نحرص قدر الإمكان على عدم اختيار الشخصيات الجدلية للمشاركة في لجنة الحوار الجديدة كأصحاب الاتجاهات الحزبية والمليشياويين وكافة المؤدلجين سياسياً ، وذلك حتى لا تتكرر تجربة اختيار لجنة الحوار السابقة والتي تم تشكيلها من عناصر مختلفة دون معرفة الأسس والاعتبارات التي أنبنى عليها هذا الاختيار ودون ان تكون ممثلة لكافة أطياف الشعب وهو الذي أدى بدوره إلى صياغة اتفاق سياسي مهلهل حمل بذور فشله منذ إقراره.
ولا يفوتني هنا وفي خاتمة هذا المقال أن أذكر ابتهالا سبق وأن تضمنه أحد مقالاتي التي نشرتها على صحيفة أخبار بنغازي منذ ثلاث سنوات في (7/11/2013 م)حيث قلت فيه :-ونبتهل إلى الله أن يوفق شعبنا الكريم في الخروج من هذه الأزمة التي يمر بها لكي يتمكن بحول الله وقوته من استكمال مسيرة بناء الدولة ومؤسساتها في ظل ما تعانيه البلاد من فوضى انتشار السلاح والانفلات الأمني الذي يولد لدي اعتقادا بأن هناك من يخطط لكي لا تخرج البلاد من هذه الدوامة المحيرة ،ولتبقى البلاد رهينة لهذه الأوضاع السيئة إلى أمد غير معروف .
أعاد الله إلى ليبيا أمنها واستقرارها