
سالم العوكلي يكتب “في البدأ كانت حكاية”
في البدء كانت حكاية
بقلم : سالم العوكلي
منذ أن كان ينصت لدفء حكايات عمته في شتاء الجبل البارد وليله الطويل.. تشرّب المبدع (أحمد يوسف عقيلة) الحكاية كوسيلة للتعرف على أسرار المحيط.. فصار مسكوناً بها.. باحثاً عنها في نثر المكان وفي أشجان الذاكرة.. منصتاً لهمسها في سلوك الكائنات الضاجّة والبكماء.. في نعيق غراب يشق الأفق كل صباح.. في أسراب الضباب تجتاح سفوح الجبال المتاخمة.. في مناجاة العشاق للنجوم.. في عواء ذئب يشق ليل القرية الهادئ.. في تجاعيد الصخر.. وإشراقه اللون في كل ربيع.
كان يدرك أن وراء كل حركة حكاية.. وفي ثنايا كل صمت حكاية.. أو بمعنى آخر كان يدرك أن لا شيء فوق الأرض ليس له القدرة على البوح.. فالإصغاء لصمت الكائنات هو سر الفن ومكمن قوته.. والمران على فض أسرار القريحة الشعبية ذخيرة الأدب الباحث عن ملمحه الخاص.. فوراء كل مثل شعبي.. أو غنّاوة علَم.. أو مهاجاة رحى.. أو أرجوزة منجل.. حكاية.. لذلك كان عالمه القصصي مشروعاً مثابراً للحوار مع الطبيعة.. وإنطاق الكائنات التي ندوسها دون أن نفطن.. ولأنه أديب باحث يطيل المكوث عند الأشياء.. محدقاً في الوطاة حين يمشي في دروبها العذراء.. كان لا يكف عن تصفح الأمكنة واضعاً خطوطه تحت كل سياق مبهر.. وتحت كل جملة كثيفة الشعرية.. وعبر تواشج حميم بين الباحث والموثق والمبدع بدأ سيرته مع توثيق تلك الشعرية الفطرية المهددة بالانقراض.. فجمع ما أتيح من الأمثلة والتعابير الشعبية.. التي تعكس تجربة أناس استخلصوا من ضرع الحياة زبدة المعرفة.. وتتبع حنين الرحى التي كانت مائدة شعرٍ للتنفيس عن مكابيت النساء.. وعن دمامل الدموع في القلب.. ولاحقَ مواسم جز الصوف واحتفالاتها بالحوار الشعري.. وفن الارتجال واستدراج الرموز.. كما سافر إلى من تبقّى من رواة الحكايات الشعبية.. ليجمع ويحقق.. حتى يصل إلى أدق صياغة لنص الحكاية الأصلية.. باحثاً عن موسيقى النثر الخفية وهي تصنع من الإيقاع سريراً هزّازاً للأطفال.. وتحت عنوان (خراريف ليبية) جمع تلك الحكايات بعد أن أضفى عليها حسّه الأدبي وخبرته السردية.. ومن ثَم قاده الشوق للرحيل في حكايات الإنسان في هذا العالم.. متتبعاً ذلك الخيط السحري الذي يربط بينها.. حيث أنجز رحيل الحكاية (حين تسافر الحكاية).. ذلك التشابه المدهش بينها.. في زمن كان التجانس المعرفي وتخاصب المخيّلة الإنسانية فضاءً لحوار الحضارات.. فكانت الحكاية تهاجر كما الطيور.. وكل مكان تحط فيه تقتبس ملامحه وتتنكّه بطعمه.. وعبر كل ذلك اكتشف منجماً لا ينضب لحبره.. ومن محيطه القريب استعار تقنية “قصته” التي تحولت إلى حبكة تجمع بين الأصالة والمعاصرة.. بين الزمان والمكان.. بين الجسد والروح .. بين الواقعة والمخيّلة.. وبين القصيدة والحكاية.
في هذه المجموعة (ضفدع الوحل) يواصل القاص (أحمد يوسف عقيلة) تمارين نحته للقصة التي تسعى لأكبر قدر من الاختزال في حروف العطف.. دون أن يتخلى عن رشاقة الجملة.. وهارموني النثر السائر على مهل صوب قفلته الذكية.. التي تفتح نافذة أخرى تطل على مشهد يتسكع فيه خيال القارئ.. وفي مكان لا يهدأ فيه الهوس بالحياة واستمرار الوجود.. يتأمل الحركة التي لا تهدأ.. والمفارقة الساخرة.. والكيمياء الخفية داخل الجسد.. فتغدو العصافير والقطط والفراشات والمطر والشهوة وكل ما ينبض أمامه وسيلته لتأويل كل هذا النبض في صالح التغني بالحياة حين يكون الجمال فتيلها الذي لا ينطفئ.
حكايات أخرى تفتح شهيتنا لمزيد من الإصغاء.. تضفر الشعر مع النثر.. يكتبها نسّاج محترف.. كل حكاية خيط صوف في (مَسْدَى) رواية ليس لها نهاية.
- مقدمة الممجموعة القصصية الجديدة (ضفدع الوحل) للكاتب احمد يوسف عقيلة.