
كثر الحديث هذه الايام عن الدين العام و اثاره المحتملة وكيفية تسويته . وقد سألني بعض الاصدقاء حول الموضوع واهميته ومدى صحة مايتردد حوله من اراء ومواقف .
وقد قلل بعض المحللين من اهمية الموضوع ، وان ترتيب الدين العام امر عادي ، وانه دين محلي ، وانه يمثل اسلوب تمويل تتبعه الكثير من الدول ، بل ان البعض شجع على تراكم المزيد من الدين ، وذهب بعضهم لاجراء مقارنات بين نسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالى في ليبيا ونسبة الدين العام الى الناتج المحلي الاجمالى في الولايات المتحدة الامريكية وبعض الدول المتقدمة الاخرى ( مقارنة مع الفارق ) . وقد غاب عن اولائك ان المتبع ، في حالة الضرورة ، هو تمويل الميزانية بالعجز ، والعمل على سداد هذا العجز في المواعيد التي تستحق فيها سندات الدين وقبل ترتيب اي عجز اخر ، وان هذا الدين المحلى. يرتب طلبا على العملة الاجنبية ، كما لوانه دين خارجي ، نظرا لان ليبيا تعتمد على الاستيراد من الخارج بدرجة انكشاف عالية جداً . اما الدول التي تراكم فيها الدين لارقام فلكية ، مثل الولايات المتحدة ، فهي دول اقتصاداتها منتجة ومصدرة للدين ، ومع ذلك فالدين العام بها مقنن ولا يجوز تجاوز حدوده القصوى الا باجراءات دستورية منظبطة .
بداية لابد من التمييز بين الدين العام الذي يموله المصرف المركزي والذين العام الناتج عن الاقتراض من السوق المالي او من المصارف التجارية اومن الجمهور عندما تصدر وزارة المالية سندات خزانة تقوم ببيعها للمصارف و او للجمهور مقابل عائد محدد ، وتكون ادارة الدين العام ضمن السياسة الاقتصادية للدولة التي يرعاها المصرف المركزي . كما يجب التعرف على الظروف التي رتب فيها الدين ، وفيما انفق ، وما اذا كانت البلاد في حالة استقرار وان هناك حكومة راتبة تدير البلاد ، او ان الدين تم ترتيبه اثناء فترة النزاع والانقسام السياسي ، وعندما يكون الدين ممول من المصرف المركزي من المهم معرفة مدى خضوع ميزانيات المصرف المركزي للتدقيق والمراجعة من قبل ديوان المحاسبة واعتمادها من قبله او خلافه ؟.
في العادة المصارف المركزية لاتستخدم اموالها لاقراض الحكومة ، ولا يقدم المصرف المركزي ضمانات لاحد ، لان المصرف المركزي يميل دائما للمحافظة على استقرار الاسعار والحد من التضخم ، ولذلك يناى بنفسه عن تمويل نفقات الحكومة ، ولهذا السبب تم تنظيم هذا الموضوع بموجب احكام المادة (11) من القانون رقم (1) لسنة 2005 بشان المصارف المعدل بالقانون رقم (42) لسنة 2012، حيت نصت هذه المادة على انه لايجوز للمصرف المركزي منح تسهيلات او ضمانات لاي جهة كانت ( بما في ذلك وزارة المالية ) سواء بصفة مباشرة او غير مباشرة ، باستثناء المصارف التجارية . على انه للمصرف ان يقدم سلف مؤقتة لوزارة المالية لتغطية عجز وقتي في ايرادات الميزانية العامة بالشروط المتفق عليها بين الطرفين على الا تزيد هذه السلفيات عن خمس مجموع الايرادات المقدرة في الميزانية العامة ، وان تسدد هذه السلفة في نهاية السنة المالية التي قدمت فيها ، ولا يجوز تقديم اي سلفة لوزارة المالية الا بعد اداء السلفيات التي قدمت لها خلال السنة المالية السابقة . وقد جاء هذا الحظر على وزارة المالية تاكيدا وتعزيزا لما نص عليه رقم (15) لسنة 1986 بشان الدين العام على الخزانة العامة الذي نص صراحة في المادة (5 ) منه على ” لايجوز للخزانة العامة اعتبارا من العمل بهذا القانون الاقتراض من الداخل او الخارج او اصدار الضمانات التي ترتب التزامات مالية الا بقانون “. كل ذلك يشير الى خطورة الانجرار وراء الاستدانة بهدف تمويل مصروفات الميزانية العامة ،، وقد نجح القانون رقم (15) لسنة 1986 بشان الدين العام في السابق في كبح جماح الخزانة العامة والشركات العامة في الاقتراض او اصدار الضمانات . ولهذا السبب ايضا اكد قانون المصارف على استقلالية المصرف المركزي عن الحكومة وخروجه من تحت عباءتها ، ضمانا لاستقرار المستوى العام للاسعار ، واختصه باقرار السياسة النقدية وتنفيذها في اطار السياسة العامة للدولة .
اما وان يصل الدين العام الذي رتبته حكومة الوفاق الى 84 مليار وما نسبته اكثر من 260٪ من الناتج المحلي الاجمالى وقيمته المضافة تساوي صفر ، والدين العام الذى رتبته الحكومة المؤقته خلال السنوات الخمس الماضية يصل الى 50 مليار دينار وجه معظمه لتمويل مرتبات ونفقات استهلاكية ، بحيت وصل اجمالي الدين العام الى 135 مليار دينار اي مانسبته 350% من الناتج المحلي الاجمالي ، امام عجز كامل للحكومة عن السداد نتيجة لتدهور موارد الدخل ، فهذا يشكل خطرا حقيقيا على الاقتصاد الوطني وهو امر غير قابل للاستدامة ولا يمكن غض النظر عنه . وعلاوة على كونه تم بالمخالفة لقانون الدين العام وبالمخالفة لاحكام قانون المصارف ، باستثناء المبالغ المقابلة لتمويل الميزانية بالعجز المحددة بموجب قانون الميزانية العامة الصادر عن السلطة التشريعية ، نجد انه لم يخصص منه شىء يذكر لاغراض التنمية .
ولقد قلل بعض المحللين ،خطأً ، من اهمية هذا الدين العام ، واعتبروه امرا طبيعيا وشبهوه بقيام شركة بالاقتراض من مصرفها لتغطية العجز في ايراداتها ، متناسين وغافلين عن ان الاقتراض من المصرف المركزي يقابله طباعة عملة ومن تم التوسع في عرض النقود وما يصاحبه من زيادة معدل التضخم في اقتصاد ريعي غير انتاجي مشوه بالفساد .
وفي الحقيقة ان الحكومات الليبية تعودت على انفاق اكثر مما لديها من موارد ، وهذا خطأ في البرمجة المالية ، وتتوسع في الانفاق على اغراض غير منتجة وعلى حساب التنمية ، في سياق اقل ما يوصف به بانه هدر للموارد وعبث بمقدرات الشعب الليبي . وعلى هذا الاساس من الصعب قبول هذا الدين العام وتبرئة ساحة الحكومة دون تدقيق ومحاسبة .
وعلاوة على ان الدين العام قد تم ترتيبه بالمخالفة للقانون ، وان نسبته تجاوزت الحدود المقبولة ، وانه انفق على اغراض استهلاكية ، وان الذى منح الدين هو المصرف المركزي ، وانه سبب في نمو عرض النقود حتى وصلت نسبة عرض النقود الى الناتج المحلي الاجمالى الى حوالي 300 % ، بمعنى اخر ادى الى تحييد السياسة النقدية – لاتوجد الية واضحة لسداد هذا الدين . وقد تم بالمخالفة لقانون المصارف الذي وضع الية لسداد السلف المؤقتة التي تمنح للخزانة العامة والتى حدد ضرورة تسوية السلفة الممنوحة خلال السنة المالية بنهاية تلك السنة المالية ، وانه على المصرف الامتناع عن منح اية سلفة اخري الا بعد سداد وتسوية السلفة التي منحت قبلها . وفوق كل ذلك لم يلتزم المصرف المركزي بخصم 5% من كامل ايرادات الخزانة العامة من النفط مباشرة لسداد الدين العام ، وفقا لاحكام المادة (3) من القانون رقم (15) لسنة 1968 بشان الدين العام . الا اذا سلمنا بان القوانين كلها كانت معطلة ولا يجوز الاعتراض بناءً على احكامها !!!!!!
ولو افترضنا اعتماد رقم الدين العام الموحد للحكومتين من قبل ديوان المحاسبة والسلطة التشريعية ، ووضع الرقم امام حكومة وحدة وطنية ، وفقا لما يجري الحوار بشانه هذه الايام ، فكيف لهذه الحكومة التعامل مع هذا الدين ؟ للاجابة على هذا السؤال ، من المهم الاخد في الاعتبار النقاط التالية:
– ان هذا الدين يظهر في جانب الاصول في المركز المالي للمصرف المركزي ، وهو بذلك يشكل تشوها في ميزانية المصرف لعدم امتلاك سندات دين لدى المصرف في مقابله ، وليس بامكان المصرف تكوين مخصص له ، ولا يمكن شطبه .
– ان الظروف والاوضاع الاقتصادية لا تسمح بتمويل هذا الدين عن طريق فرض ضرائب جديدة ، او تمويله من الموارد السيادية غير النفطية بالميزانية العامة لعدم كفايتها ، وان ايرادات النفط هي الاخرى غير كافية حتى لتغطية الباب الاول من الميزانية العامة ، فضلا عن ان هناك التزامات اخرى على وزارة المالية واجبة السداد مثل علاوة الاطفال وربات الاسر التي تتجاوز قيمتها 30 مليار دينار ، والزيادةفي مرتبات بعض الفئات التي لم تصرف بعد ، والديون المستحقة لصندوق الضمان الاجتماعي .
– ان هذا الدين ، قبل التمكن من وضع الية لسداده والبدء في تطبيقها ، سيكون قيدا على اية ميزانيات عامة مستقبلا ، مما يحد من قدرة الحكومة على توفير الخدمات العامة من جهة ، والانخراط في تنفيد اية مشاريع تنموية ، من جهة اخرى .
– يشير البعض الى الرسم المفروض على مبيعات النقد الاجنبي وامكانية استخدام حصيلته في سداد الدين العام او جزء منه . ونقول في هذا الصدد ان الرسم المفروض على مبيعات النقد الاجنبي هو رسم مؤقت وان استخدامه لأية اغراض تمويلية يعتبر مخالف لطبيعة الرسم والغرض الذى فرض من اجله ، وان استخدام جزء من عوائد هذا الرسم في الماضي لتمويل نفقات الميزانية العامةً قد أدى الى فتح شهية الحكومة لاقتراح وضع ميزانيات عامة ضخمة ( ترتيبات مالية مضخمة ) فاقمت من الطلب على النقد الاجنبي ومن تم ارتفاع سعره في السوق السوداء ، بالرغم من ان الهدف الاساسي لفرض الرسم هو تضييق الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء ، ولذلك نلاحظ انتكاسات متتالية وتدبدب في سعر الصرف بالسوق السوداء . كما ان المواطن لا يمكنه تمويل دين استهلاكي لم يعود عليه باية منفعة ولاتقابله خدمات ملموسة لدى المواطن . وهذا يعنى عدم امكانية استخدام عائد فرض الرسم لتمويل الدين العام ، مستقبلا ،، لكن من ناحية اخرى ، لو ان حصيلة عائد فرض الرسم على مبيعات النقد الاجنبي قد استخدمت بالكامل خلال السنتين الماضيتين لتمويل العجز المتنامي في الدين العام لادى ذلك الى تخفيض رصيد الدين بحوالي الثلث ، والى امتصاص جزء من العملة في التداول والتحكم في عرض النقود . ونرى انه لا مجال لفرض رسم اضافي جديد على مبيعات النقد الاجنبي مستقبلاً ، لكونه اجراء تورطت فيه الحكومة ، وينبغي التوقف عن الاستمرار فيه واستبداله بسياسة سعر صرف يقرر ها المصرف المركزي ويتابع تنفيذها .
اذا كيف يمكن سداد الدين العام ؟
قياسا بالاجراءات التي اتبعت في اطفاء الدين العام المحلي عام 2002 ، والذى بلغت قيمته حوالى 6.5 مليار دينار ، والذى اعتبر في ذلك الوقت معضلة ارقت المسؤولين لعدم وجود موارد كافية وكان الدين لصالح المصارف التجارية في شكل سندات خزانة بعائد ، فقد تم اطفاء هذا الدين باستخدام صافي اعادة تقييم اصول وخصوم مصرف ليبيا المركزي نتيجة لتغيير القيمة التعادلية للدينار الليبي في ذلك الوقت ، وفقا لاحكام المادة ( 27 ) من القانون رقم ( 1 ) لسنة 2005 بشان المصارف والتى كان منصوص عليها ايضا في القانون رقم ( 1 ) لسنة 1993 بشان المصارف والنقد والائتمان الذى كان معمولا به . والجدير بالذكر هنا ان مجرد تطبيق سعر الصرف المحمل برسم مبيعات النقد الاجنبي على معاملات القطاع الخاص والقطاع العام ، على حد سواء ، لايمكن ان يوفر التمويل الكاف لسداد الدين العام ، كما يعتقد البعض ، رغم انه يزيل تشوها من التشوهات التي يعاني منها سوق النقد الاجنبي . ولكي يمكن استخدام صافي اعادة تقييم اصول وخصوم مصرف ليبيا المركزي لابد من اجراء تعديل في سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي بتخفيض هذا السعر ( devaluation) الى مستوى السعر التوازني اولا ، واعتبار الرسم المفروض حاليا على مبيعات النقد الاجنبي جزء من سعر الصرف الرسمي الجديد على غرار ماتم بخصوص ضريبة النهر الصناعي التي كانت مفروضة على المعاملات بالنقد الاجنبي عام 2002 ، وفتح كافة المعاملات بالنقد الاجنبي لدى المصارف والغاء القيود المفروضة عليها . وسيودي ذلك الى نتيجتين : الاولي زيادة ايرادات الميزانية العامة المقومة بالدينار الليبي من تصدير النفط بمعدلات تتوافق مع نسبة الارتفاع في سعر صرف النقد الاجنبي بالدينار الليبي ومن تم زيادة قدرة وزارة المالية على تمويل مختلف المصروفات وتوفير الخدمات العامة وتحسين نوعيتها ، والثانية ، ضرورة اعادة تقييم اصول وخصوم مصرف ليبيا المركزى المقومة بالدينار الليبي ، والتي من المتوقع ان تسفر عن رصيد دائن في حساب احتياطي اعادة التقييم يمكن للمصرف المركزي استخدام ما زاد عن 25% منه في اطفاء الدين العام ( الفقرة ج من المادة ( 27 ) من القانون رقم (1) لسنة 2005 بشان المصارف ) .
وفي كل الاحوال فان التعامل مع الاختلالات التي يعاني منها الاقتصاد الليبي والتشوهات التي ترتبت على السياسات الاقتصادية التي طبقت خلال العشر سنوات الماضية والاثار السلبية على اساسات الاقتصاد الكلي نتيجة للصدمات المتعاقبة التي تعرض لها الاقتصاد الوطني ، ينبغي ان يكون في اطار رؤية محددة توضع لاعادة هيكلة الاقتصاد والتخلص من هيمنة الايرادات النفطية والعقلية الريعية التي كبلت الاقتصاد ولازالت مند اكتشاف النفط والبدء في تصديره ، وفقا لاهداف محددة واستراتيجية لها بعد زمنى محدد يضعها المختصون وتلتزم بها الحكومة والمصرف المركزي .
26 سبتمبر 2020