ثقافة وفنون

ديكتاتورية الوجع .. كتاب الشعر والحنين إليه

بقلم: الناقد : معتز محسن / مصر

عند تسلمي لنسخة من كتاب الاستاذ في التاريخ القديم د/ الصديق بودوارة المغربي ، ابن البادية الليبية  مؤلفه الهام (دكتاتورية الوجع .. قراءات في الشعر الشعبي الليبي) و هو الجزء الأول من مشروعه البحثي لهذا الموضوع الذي يفجر لنا منبعًا هامًا لعله طوق نجاة أمتنا المنكوبة التي تلاحقها المآسي           و المؤامرات لما تمتلكه من كنز نفيس ممثلاً في تراثها العريق.

استهل الكاتب بكلمات بديعة أراها وثيقة مصالحة أتت في موعدها وقت التشاحنات الموجودة بالمنطقة عامةً و ليبيا خاصة لارتباط المضمون ببيئتها الزاخرة قائلاً بصوت يملؤه الشجن :

الإهداء

إلى المودة و التسامح و الغفران..))

ما دامت القلوب متحجرةً إلى هذا الحد.))

المستهدف الرئيسي هنا هو المواطن العربي عامةً و الليبي خاصةً في ظل التناحرات الغائرة في جسد الأمة الواهن لوهن أبنائها لتفريطهم في كنزهم الثمين الممثل في التراث العريق الذي أراد أن يعيده عبر تذكير هؤلاء اللمخدرون من مؤامرات الداخل و الخارج باستعادته من ربق السلب و الإخفاء.

من هنا كان وقت ظهور الكتاب المستعيد لسمة من سمات البادية كتيمة مميزة تميزها عن باقي البيئات   وهي تيمة (الشجن) التي أطلق عليها الكاتب (ديكتاتورية الوجع)، ولكن، هل للوجع سمة الديكتاتورية ؟

إجابة هذا السؤال وردت بتعبيرات منثورة برياحين الشعر عبر قلم الكاتب :

(( للحزن قداسته ، للحزن تفرده ، للحزن هيبته و للحزن طرق فريدة و ربما لهذه الأسباب كان الحزن دائمًا سببًا للإبداع البشري و ملهمًا لقصائد الشعراء.))

 

كلمات تفتح شهية المتلقي لمعانقة صفحات الموضوع عبر المقدمة البديعة التي كتبها الشاعر  “جمعة الفاخري” محببًا للنفوس إرثنا المهجور معيدًا إلينا الأضواء الحقيقية التي رفضناها من أجل بريق زائف تستر وراء التقدمية لكي نهدم أنفسنا بأنفسنا.

لامس الكاتب تلك النقطة بتركيزه على أهمية التراث داعيًا إلى وضع البحث و الاستكشاف لهذا العالم المثير و الغريب كجسر يجمع بين الماضي و الحاضر كي يشعر المرء بوجوده من خلال خيرة الأسلاف لنشوء خيرة الخلفاء، و إلا لانطبق علينا قول الشاعر الداغستاني “رسول حمزاتوف” :

(( إذا أطلقت رصاصةً على ماضيك سلط المستقبل عليك مدافعه.))

يا لروعة المقطع الذي تماشى مع كلمات د/ بودوارة ،و كأنه يصيح بثورية الأديب الممنطقة بيراع الحكمة الحاسمة لأبناء بلده المتناحر كي يلملموا شتاتهم بربط حاضرهم المرير بماضيهم التليد كي يعود البلد الممزق إلى وحدته مجددًا متجاهلين الأجندات المرعبة لاستقرار الأوطان.

تم عرض هذا الحلم بالعودة مجددًا لظلال الهدوء و العمران باسترجاع المصطلحات السائدة في الشعر الشعبي بوجعه المستمر على مدار التاريخ و هي :

اليأس ، الغيبة ، الفراق ، الجراح ، الهجر ، القهر ، الخطأ ، الحزن ، الخيانة ، الخداع ، الجفاء ، الغدر ، اللوعة ، الأوجاع ، الندم ، الكواين ، المر ، المرار ، القسوة ، النار.

هذه المصطلحات الشجية تتماسى مع مقدمة الكتاب حول قضية جدلية لا زالت محل خلاف بل زادت من فورانها وسط هبوب رياح الأصولية المستهجنة من براثن القوى الغربية و هي موقف الشرع من الشعر ، و الذي استفاض في عرضها بمقدمته الزاخرة لكي يضع نقطة فصل حول تلك الجدلية المرهقة لعقول المبدعين و أفئدتهم كي لا يستسلموا لترهيب القوى المستهجنة.

جاء الحسم عبر تفسير أخر ثلاث آيات في سورة الشعراء، و التي حسمت بموقف الرسول الكريم لكعب بن مالك و عبد الله بن رواحة و حسان بن ثابت وقت بكائهم و حزنهم على توصيف الشعراء بالغواية     و قول ما لا يُفعل و هنا كان الحسم بقول نبي الرحمة عقب نزول أداة الاستثناء (إلا) قائلاً :

إن المؤمن يجاهد بسيفه و لسانه و الذي نفسي بيده لكان ما ترمونهم به نضحُ النِبَّلْ.

مهد الكاتب لهذه المسألة كي يزيح عوامل اللبس المفروضة علينا من جراء هذا الخلط العجيب تحت ظلال مطاطية الحلال و الحرام من فوهات الحناجر المتعصبة التي أعمت العيون و القلوب كي لا تبدع و لا تفكر من أجل غد أفضل.

لمحة ذكية لمن يسعى لإذابة القلوب المتحجرة و العقول المتيبسة في الشروع لعملية الإصلاح و التنوير عبر الموروث الشعبي الذى أرى في اختياره له قمة الذكاء كترياق فعال في إعادة الوحدة الصلبة لليبيا كما كانت في الماضي.

من الماضي تأتي الحكمة، و هذا ما أكده الكاتب في نفحاته التراثية، مما يجعلني أعبر له عن امتناني بريادته عبر القوة الناعمة في توحيد الصف مجددًا من خلال نفحات الأجداد العتيقة الفواحة بتفاصيلها الثرية مما يدفعني لأن أعلن عبر كلماتي المتواضعة بأن د/ بودوارة هو مثابر أدبي في تنقية الموروث الشعبي من شوائب الحروب الضروس في البادية الليبية كحرب البسوس و لكن بنسخة معاصرة في قرننا الحالي.

كان العرب في الجاهلية عند تطاحنهم مع بعضهم البعض في الحروب الدامية ، يأتي الدور على الشاعر في مطولاته و معلقاته بالتأريخ لها ما بين الفخر و المديح و الهجاء و الغزل مع الخروج بحكمة خالدة تجنب الجميع من تلك التطاحنات البالية كعمرو بن كلثوم و عنترة بن شداد و لبيد بن ربيعة و طرفة بن العبد و امرؤ القيس.

هؤلاء هم وسائل الإعلام في جبين الأمة كما أكدت سورة الشعراء لهذا المعنى، و من هنا أراد الكاتب أن يوضح لنا السر في اختيار الشعر الشعبي للحديث عنه في كتاب انتهى من جزءه الأول و يشرع الآن في جزءه الثاني، سائرًا على نهج فطاحل الشعر الجاهلي، مؤكدًا بأنه لازال للشعر دوره الحيوي في إيقاظ ، الأمة من أزماتها المستمرة رغم التطورات المتلاحقة لوسائل الإعلام و لكن ينطبق على القصيدة الشعرية و خاصةً الشعبية المثل الإنجليزي القائل :

كل ما هو قديم كالذهب اللامع.

طرح لنا الكاتب قضية تراجع الشعر العمودي و تألق الشعر الشعبي في البيئة الليبية، أي عودة المناخ الزاخر من البيئة الجاهلية لوقتنا المعاصر في البادية كي تبقى الأصالة كالصخر الجلمود رغم تعدد المتغيرات السريعة و الفورية في حياة البشر و قدرة البادية على إحتواء الأحداث المعاصرة بسرعتها الفائقة.

نرى بفصول الكتاب من حيث الترتيب كنوعٍ من الإنسيابية المنطقية في طرح القضية على النهج الدرامي و الفني في التعرف على الحكاية من جذورها، ليتساءل بسؤال الباحث و المنقب عن سر الأشياء في إنتشارها بين أفراد المجتمع ، لماذا الشعر الشعبي هو السائد في ليبيا ؟

نرى الحالة التنقيبية تسيطر على مجريات الكلمات لطبيعة الكاتب البحثية في تنميق و توضيح الأمور حتى نتعلم عند قراءتنا للمواضيع منطقية التحليل و العرض في توضيح مجريات الأمور بإستعراض النواحي التاريخية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية التي شكلت عبر قرون مديدة ثقافة الفاجعة من رحم الرمال الصفراء الشاهدة على ملاحم البكاء و الدماء في أوقات البحث عن حق تقرير المصير.

كانت الفصول في تشابكاتها و علاقاتها المنطقية واضحة التلاصق و التجاور في الكشف عن ليبيا عبر العصور منذ بدائية الحياة و حتى العولمة التي وضحت في الفصل الرابع (التشبيه الجديد في الشعر الشعبي .. ((عولمة الأبيات)))، حيث وجدنا مفاجأة مدهشة تبين لنا رغم بدائية الحياة لكن حكمة الصحراء تلاحق سرعة الأحداث الجارية في إضفاء الثقافة البدوية برؤية الحكمة العتيقة على ما يحدث في عالم السرعة و التطور و التكنولوجيا.

هناك مقطع طريف يقول :

(( طويلة .. و طولك كيف حارس غانا

                                                      خذ كاسنا و انتي غلاك خذانا))

قال عنه “بودوارة” في كتابه :

(( عندما تعثر على هذا البيت منقوشًا على جدار الكهف ، بعد ألف سنةٍ من الآن ستعرف أن مواطنًا ليبيًا ضربه الشوق إلى حبيبته ذات يومٍ في مقتلٍ ، فباح بسره على جدار الكهف. ))

تضامنًا مع كلمات الكاتب، أضم صوتي لصوته بأن تلك المقطوعة الشعرية الرائعة تمزج بين روح البداوة و نكهة المدينة أي بين رصانة عنترة و تغزل الأعشى بطريقة عصرية مشبهًا حبيبته في طولها المديد بطول حارس مرمى غانا الذي أضاع على المنتخب الليبي فرصة إحراز اللقب القاري الأول في مشاركة ليبيا الأولى على أرضها سنة 1982 بتصديه  لركلة الجزاء التي أبكت الملايين في الأرض الليبية.

إذن لم تخاصم البادية العولمة بل إرتبطت بمعين القريحة الصحراوية أي المزج الحميد بين الأصالة       و المعاصرة على قلب رجل واحد.

الشعر الشعبي هنا لازال وثيقة التأريخ لحياة الأمة الليبية في ظل تواجد الوسائل التكنولوجية الحديثة ، أي يشبه في قوة تواجده رغم هذه التطورات كوجود الكتاب الورقي و إثبات خلوده رغم تنوع الوسائط الحديثة أي يعانق الخلود الشيء الأصيل برونقه دون تبدل و تحلل في وسط الزخم التكنولوجي الرهيب.

لم ينس الكاتب أن يعرض لنا القصائد العاطفية من المعين الشعبي ليؤكد لنا على أن مكمن الحب الخالد كما هو متعارف عليه في الصحراء منذ الجاهلية و حتى أيامنا الحالية ، فمن رياح الصحراء يأتي وحي الحب العذري و الغزل المتوهج حسب معين الشاعر في وصف محبوبته لكن ما طغى على الشعر الشعبي الليبي حسب طرح الكتاب قصائد الشجن الملتهب في فراق الحبيبة كما كان في الجاهلية لكثرة التنقل من مكان للآخر.

يتناول الكتاب أسباب عداء أبناء البادية للمدينة لشعورهم بالغربة في الحياة بها ، مما انعكس على القصائد التي وصفت مشهد الإقتلاع من الجذور و منبت الصبا و المساحة الشاسعة بالرحيل إلى المركزية و المدنية و الحضارة و العيش بين جدران مغلقة تمنع التأمل و التفكر في إبداع ما تتطلبه القريحة الشعرية.

يحسب للكاتب بثقافته الواسعة و الموسوعية دعوته المتحضرة في ختام الفصل الخامس :

(إننا نكرهها الآن .. و قبل الآن (العداء للمدينة في الشعر الشعبي)) ، قائلاً :

(( و خلاصة الحكاية أن المدينة رائعة أيضًا ، و أنها بدورها تملك فضاءها الخاص الممتع ، و أنها كالنجع القديم تملك صهوةً يمكن للمرء أن يتربع عليها ليرى الدنيا بأسرها مدهشة و مليئة بالغموض ،   و أن المدينة التي تضمنا إليها الآن تستحق من الشعر الشعبي أن يعيد النظر في حالة عداء معها ربما قد تكون طالت أكثر مما ينبغي للكراهية أن تطول. ))

هذه العبارة هي بيان أدبي و سياسي للحمة مجددًا بين أطياف الشعب لعبور الأزمة الحالية حيث كسر جدار الكراهية و العنصرية كي لا يتصدع الوطن لحساب القوى الخارجية و شياطين الداخل.

يختتم الكتاب بسؤال لامع يضع أيدينا على الألم المزمن في جسد الأمة، ألا و هو تجاهل التراث لنراه يصيح صيحة المتأدب المتحضر قائلاً في الفصل السادس و الأخير :

كل هذه التروة من القيم : (لماذا لا ندرس الشعر الشعبي في المدارس ؟)

سؤال هام يفتح لعقولنا و عيوننا في المنطقة العربية على تجاهل التراث في مناهج المدارس و الجامعات ، مما تسبب في هوان المقاومة بالعقل قبل الجسد مما أدى إلى التفتتات الكبرى لتفريطنا في أكسيرنا المصيري الذي يجعلنا نحدد مصيرنا أمام رياح الشر العاتية.

استشهد الكاتب بتدريس اليابان و ألمانيا لأدبهما الشعبي كنوع من تحصين النفس الوطنية من براثن العولمة الشرسة كي لا تذوب النفس الوطنية في شباك النفس العالمية و هذا ما وضح بشكل كبير في تلك الشخصيتين بحفاظهما على لغتهما و تراثهما و هويتهما حتى الآن.

ختامًا أرى أن ذلك الكتاب هو وثيقة تصالح مبدئية بين أطياف الشعب الليبي عبر بوصلة اكتشف نفسك بنفسك فإن إستطعنا اكتشاف أنفسنا بصدق عبر فرز مميزاتنا و نعمنا الوفيرة تكون البداية الناضجة       و القوية في الإبقاء على النفس و الأرض في وقت واحد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق