ثقافة وفنون

الصديق بودوارة في روايته الجديدة “الكائنات” … قطيع ٌ مثلنا، ألا يحتاج إلى عصا ؟

إذا أردت أن تعرف حال الناس بعد الذي حدث من زلزال سياسي واجتماعي وأخلاقي واقتصادي، فما عليك إلا أن تخرج إلى شارع من شوارع “أم الجراد” وأنت تقود سيارتك.
فقط، هذه هي الوصفة السحرية والواقعية معاً، ربما هي المرة الأولى التي يلتقي فيها السحر بالواقع، لكن قيادتك للسيارة فعلاً في شوارع “أم الجراد” هي الحل الأمثل لسبر أغوار هذه المجاميع التي تجوب الأحياء وتتجول في الميادين كل يوم.

تقف على المفترق ..
تمر بك عشرات السيارات، بل المئات منها، من بين كل عشرين سيارة أو أكثر تصادفك سيارة تضع لوحتها المعدنية المألوفة التي تحتوي على رقمها، الباقي يجوب اصحابها الشوارع بلا لوحات معدنية، ولا خوف من الحساب.

الإشارة الحمراء تبدو وكأنها نبي ينشر دعوته وسط قبيلةٍ من الصم وضعاف السمع، القليل جداً يحترم وجودها، والكثير جداً يمعن في الاستخفاف بها، بل ويستخف بمن يحترمها أيضاً، أما وجوه السائقين فهي متجهمة تحدج وجوه غيرها بريبةٍ وشك، وإذا ما أردت من أحدهم أن يفسح لك المجال لتعبر أمامه، رماك بلعنةٍ تحس بها وإن لم تسمعها، وقفز بمقدمة سيارته أمامك وكأن المسألة مصيرية بالنسبة له، فالناس في شوارعنا أصبحوا في حاجةٍ إلى تحقيق انتصار، أي انتصار، ولو على مفترقٍ تحاول أن تنظم أموره جاهدةً إشارة حمراء.

رجل المرور هو ضحية هذا المشهد، خجول لا يريد الدخول في متاهة عراك مع أحد، فالسلاح في يد الجميع، والتوتر سيد الأحكام، وسلطة الأمر والنهي أصيبت بعد ثورات هذا الزمن المشبوه بعاهةٍ لا يتمنى عاقل أن تكون مستديمة.
تحرر الناس من حكم فردٍ فوقعوا في استبداد مجاميع، ولعل الأكثر خطورة أن تغول الدولة على المواطن قد انتهى تماماً ولكن ليحل محله خطر أكبر هو تغول المواطن على الدولة.

لا شيء في هذه المدن المضطربة كان يدعو للاطمئنان، عقلية شرهة بدأت في التخلق ككائنٍ فضائي غريب، أن تنهب من المال العام ما وسعك نهبه، كل شيء، وأي شيء.

ولإرضاء هذا الكائن النهم الذي بدأ يستوطن الصدور، كانت المرتبات تتزايد إلى أرقام فلكية، وخاصة مرتبات السياسيين في مختلف الكيانات المستحدثة، وفي المنشآت الدبلوماسية خارج البلد، لا حدود للزيادة، ولكن لا صرامة في مراقبة سير العمل.

تناقض مريب بدأ في الانتشار، فيما واصلت القيم تدهورها بفعل غياب الخوف من العقاب، وبكل وضوحٍ كانت القاعدة الذهبية تترسخ يوماً بعد يوم : من أمن العقوبة أساء الأدب.

لهذا كنت تشاهد كل يوم أحد السائقين وهو يركن سيارته في منتصف الشارع تقريباً ويترجل منها بكل راحة بالٍ ليحتسي كوباً من الكابتشينو في الكفي المجاور، أو يمر بك طفل لم يتجاوز العاشرة وهو يقود سيارة والده بكل نزقٍ مستهتراً بكل ما تعارف عليه العالم من آداب للمرور.
ــــ لقد استدار فجأة، دون أن ينبهني بإشارة الانعطاف . هذا الكائن .
ضحكت من أعماق قلبٍ كسيح، بينما كان “خالد” يواصل شرح ما تعرض له من موقف محرج :
ـــــ توقف أمامي مباشرةً، نزل من سيارته، وصاح بي والشرر يتطاير من عينيه هاتفاً لي وهو يتوعد قائلاً : أنت ، أنا أعنيك أنت، أيها الكهل .
سألته وأنا أبتسم :
ــــ وكيف كانت هيئته يا أبا زيد الهلالي ؟
ــــ مخيفة، الغريب أنه شاب في مقتبل العمر، لكن المارة أنقذوني في اللحظة الأخيرة، وأخبرني أحدهم بعد ذلك أن هذا من مفعول الأقراص المخدرة التي يتعاطاها الشباب بكثرةٍ هذه الأيام.

ضحكناً معاً ..
دائماً كنا نضحك معاً، كنا نسخر من هذه الدنيا التي تسخر منا بدورها، وكنا نعالج جراح أرواحنا بالمزيد من الجراح.
ــــــ إنه يوم الخميس، لاشك أن الجماعة ينتظرون، والمصطبة كذلك تنتظر.
نبهني “خالد” إلى الموعد الاسبوعي قبل أن يباغتني النسيان كعادتي ، فتوجهت صحبته إلى قطعة الأرض الصغيرة التي كنت أملكها في ضواحي المدينة، حيث وضعناً متاعنا القليل على مساحةٍ اسمنتية مربعة وسط شجيرات البطوم والشماري دائمة الخضرة ، ثم بدأت بقية المجموعة في التوافد.

المصطبة ..
على تلك الرقعة المربعة كنا نؤسس كوكباً آخر، بعيداً عن هذا الكوكب المبتلى بكل ما هو بشع ورديء، كنا نتفنن في الضحك، وفي اختراع الحكايات، وكنا نجعل من قصائد الشعر شريعةً نعالج بها المسافات، وكنا نرمم صدأ أرواحنا بالمزيد من الحوار، وكنا نحارب هذا القبح المسيطر بالحديث المتقن عن الجمال، وكنا نمعن في الحديث عن الفاتنات من النساء كما نمعن في الحديث عن الفاتنات من القصائد.

المصطبة ..
كنا نؤمن أن هذا الوطن بحاجةٍ ماسة إلى مصطبةٍ مماثلة يطرح عليها أوجاعه لعلها تصيب دواءً تحت اشعة الشمس، تلك التي لا يغيب لها نور حتى وإن ملأ الظلام صدور هذه المجاميع المضطربة منذ شروق الشمس حتى غروب آخر أيام العمر.
هكذا كنا نهرب إلى مكاننا الأثير، طعامنا، دجاجة على نار الفحم، وخبزنا ضحك موجوع، وملح سهرتنا قصائد الشعر :
ـــــ سمعت اليوم أحدهم يحكي عن “سياسة القطيع”، هل تشرحون لي ما معنى ذلك ؟
أشعل “رمضان” سيجارته متكئاً على مرفقه الأيمن كعادته، وبدا أنه سيستمتع بالإجابة مهما كانت، إلا أن “صلاح” بادر بالهجوم :
ــــ طبعاً، باعتبارك من كبار أدباء العالم فقد تخيلت عشرين نعجة وبضع كباش .
انطلقت القهقهات من أفواه الجميع بينما أشعلت سيجارتي متابعاً ما سيحدث :
ــــ سياسة القطيع ليست دائماً سيئة. أحياناً، إذا كان القطيع جلفاً وهمجياً إلى هذا الحد، فإنه يحتاج إلى عصا الراعي لتعيد إليه الصواب.
أراد “رمضان” أن يرد الصاع صاعين :
ــــ هذا يعني أن حرمانك من فخذ هذه الدجاجة يعتبراً عصا الراعي بالنسبة إلى جلف مثلك .
حاول “سعد” أن ينحرف بنا كعادته إلى حديث السياسة :
ــــ في الثورة، تعثرون على الإجابة يا عشاق أفخاذ الدجاج، الثورة هي رفض لسياسة القطيع، والحاكم الفرد لم يعد مقبولاً في القرن الواحد والعشرين أن يكون راعياً يقودنا بعصاه .

بادر “خالد” بإيقافه في الوقت المناسب :
ــــ ممنوع السياسة، لا تنس القوانين، ثم أرجو أن تشرح لي يا مدرسة السياسة ، هذا القطيع الذي يكسر الاشارة الحمراء وينتهك حرمة كل شيء، ويتطاول في تغوله على الدولة، ويصيب برصاصه الطائش الأبرياء، ويرفض حتى أن يضع لوحات معدنية تحمل أرقام سيارته، ويروّع الآمنين بسلاحه ويفعل ما يشاء دون أن يخشى العقاب، هذا القطيع، هل يعجبك حاله الآن ؟

قررت أن أضع حداً للنقاش تمهيداً لقصيدة شعرٍ كنت أريد أن اسمعها من “عبد الله” بإلقاءه المميز :
حسناً، لنسمع قصيدة منك يا”عبد الله”، ولكن، قبل ذلك. استحلفكم بالله، قطيع ٌ مثلنا، ألا يحتاج إلى عصا ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من رواية “الكائنات” للكاتب الصديق بودوارة ((تحت الطبع)).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق