مقالات

الى كل مدعوٍ إلى مؤتمر باليرمو

بقلم : د. نجيب الحصادي

هذه كلمات أهمس بها في أذن كل مدعوٍ إلى مؤتمر باليرمو؛ وله أن يفسح لها السبيل كي تمر إلى أذنه الأخرى، ومنها إلى الأثير؛ وله أيضا أن يبقيها بين مسمعيه – موضعا مؤقتا للتفكر – لعلها تثنيه عن الذهاب، أو تحفزه عليه.
• لست ممن يحكم مسبقا على مثل هذه المؤتمرات بالفشل الذريع، ولا ممن يحدوهم الأمل في قدرتها على إحداث تقدمات حاسمة. حظوظ المؤتمر في الفشل والنجاح وقف في تقديري على طبيعة المواقف التي يتبناها المشاركون فيه.
• لا ريب في أن الوطن يشغل كثيرين من أبنائه؛ بمعنى أنه يعنيهم أن يكون صالحه أهم من صالحهم، ومن صالح أسرهم، وقبائلهم، وأقاليمهم. ولكن حين يبقى هذا الانشغال حبيس الأذهان والوجدانات، فإنه لن يحدث أثرا يذكر. هذا ما يجعل البعض يحاولون ترجمة هذه المشاعر والعواطف الوطنية إلى أفعال تحدث وقعها على الأرض.
• وتتخذ هذه الترجمة أساليب متفاوتة من حيث درجة التأثير: فهناك أسلوب المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات؛ وهناك أسلوب العمل المدني والأهلي؛ وهناك أسلوب الكتابة في الصحف وإعداد الدراسات الرامية إلى نشر الوعي المجتمعي. غير أن هناك من يستشعر حدود وقصور مثل هذه الأساليب، ويأمل في أن يحدث فرقا أكبر. هؤلاء هم من نسميهم بالساسة.
• يبدأ السياسي – صادقا – بمشاعر وطنية جارفة، ويشعر – مخلصا – أنه يستطيع أن يحدث فرقا مهما في مجتمعه. وغايته في أصلها هي صالح الوطن، سواء تعين فعله في القيام بثورة أم تشكيل حزب أم تولي منصب سيادي. غير أن مصالح أخص تحل في الأثناء بديلا عن هذا الصالح الأعم، وفي أحيان كثيرة دون أن يدرك عملية الإحلال هذه. تحديدا فإنه ما أن يبدأ في ممارسة العمل السياسي حتى ينبري سياسيون آخرون، يختلفون معه في الرأي، لمناصبته العداء، وتشويهه، لكونه خصما يشكل خطرا عليهم، وعلى رؤيتهم التي يرون فيها خلاص الوطن.
• آنذاك يشرع في الدفاع عن نفسه، والرد على ما يوجه له من تهم، ولا يلبث حتى يدخل في لعبة الكيد والتنابز والشيطنة. تدريجيا يتسلل السياسي فيه إلى الوطني، حتى يكاد يحل محله. ويحدث في نهاية المطاف أن ما يعتبره فاعل سياسي وطني في صالح الوطن سوف يعتبره فاعل سياسي آخر – لا يقل وطنية – أوثق سبيل لهلاكه.
• أعود إلى مؤتمر باليرمو. يفترض أن المدعويين إليه سياسيون، لديهم تأثير ما على الأرض. فإذا أفكر أحدهم في الذهاب إلى هناك حاملا معه دفاتره القديمة، التي يحسب أنها وحدها القادرة على إنقاذ الوطن، فأحرى به أن يقعد في داره، لأنه سوف يعود كما ذهب، بحقيبة تضم دفاتره القديمة نفسها، التي لن يعبأ أحد بتسلمها منه، لأن لدى الجميع، بما فيهم الطليان، نسخة منها. أما إذا قرر عدد لا بأس به من المشاركين العودة إلى ممارسة دورهم الوطني – عوضا عن السياسي – وتقديم ما يكفي من التنازلات لأطراف لا يعتبرونهم خصوما بل شركاء في الوطن، فلا ريب في أن تقدما حقيقيا سوف يحرز. (وبالمناسبة، إذا كانت كلمة “تنازلات” صعبة على أنفس البعض، فلهم أن يستعيضوا عنها بكلمة “توافقات”).
• سوف أسمع احتجاجات غاضبة تتساءل: كيف نتنازل لمن ضيّع الوطن؟ كيف نتوافق مع من كان يدعم الإرهاب؟ كيف نتخلى عن مبادئنا ونخون دماء الشهداء؟ كيف نسلم رقابنا لدولة ثيوقراطية أو أوتوقراطية؟
• ولدي لأصحاب مثل هذه الاحتجاجات رد واضح وبسيط ومباشر، مؤداه أني لم أطلب من أحد أن يتنازل عن أي شيء ولا أن يتوافق على أي شيء؛ بل طلبت ممن لا يبدي استعدادا للتنازل والتوافق ألا يذهب إلى باليرمو، وأن يكف عن التظاهر بأنه يشارك في حوار وطني من أجل صالح الوطن.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق