مقالات

دور الدين والعرف في تطبيق المصالحة و العدالة الانتقالية في ليبيا

بقلم : سعده سعيد امتوبل

لا شك ان الشعب الليبي شعب يتأثر كثيرا بالدين وبالعرف ، وهما المحوران اللذان يجب الاستفادة منهما في تطبيق المصالحة التي هي المحور الاساسي في العدالة الانتقالية ، فالشعب الليبي شعب مسلم وسطي ، ثم ان العادات والطبائع القبلية هي السمة الغالبة في سلوك الناس .. فالدين والعرف لهما جوانب ايجابية كثيرة لو استغلت استغلالا حسنا في نشر العدالة الانتقالية فإنها ستؤدي ثمارها على الوجه الأكمل . :
أولا : في الشريعة الاسلامية :
إن التصالح والتسامح والصفح والغفران بين المسلمين، من مكارم الأخلاق التي مجّدها العرب في تراثهم، ودعت إليها الشريعة الإسلامية. قال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِين) (آل عمران 134). ومن المبادئ الفقهية التي تشجع على العفو والتسامح ما فعله رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في فتح مكة : فقد اجتمع الناس يوم فتح مكة حول الرسول في المسجد الحرام حتى امتلأ وهم ينظرون ماذا سيصنع الرسول بهم وقد مكنه الله منهم فنظر إليهم بعد ان طردوه من مدينته مكة وشردوا اصحابه وقتلوا الكثير منهم وحاربوا دعوته بشتى السبل ثم قال: لا اله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}… سورة الحجرات – آية 13.ثم قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم.قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته (لا تثريب عليكم اليوم) أذهبوا فانتم الطلقاء.وبهذه الكلمات عفا النبي عليه الصلاة والسلام عن كل شيء وتناسى كل إساءة وتجاوز عن جرائم قريش الماضية كلها حتى لقد امتد عفوه فشمل من كان قد أهدر دماءهم عند دخول مكة وإن تعلقوا بأستار الكعبة . ورأت قريش تلك السماحة وذلك الكرم ففتحت للرسول قلوبها فكان هذا الفتح بلا شك أجل وأعظم من أن تصل إليه سيوف المسلمين فقد لانت أفئدة ما كانت لتلين ورقت القلوب القاسية والتفت حول الرسول فى إعجاب بالغ حين جلس للبيعة وبايعه الجميع وكانت اعظم صور العفو والتسامح التي مهدت لعملية التغيير والانتقال الى مجتمع العدل والحرية والمساواة في ظل الشريعة ودولة المدينة.ومن المبادئ التي أقرها الفقه الاسلامي :حرمة دم المسلم والمقيم في دار اﻻسلام اياً كانت ديانته. وان لا يهدر دم في الاسلام .
لماذا ﻻ نقتدي برسول الله صلى الله عليه واله وصحبه وسلم امتثاﻻ ﻻمر الله تعالى ( ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [سورة الحشر : 7] حثنا الإسلام على التحلي و التمسك بالعفو و التسامح فهما سبب في الحصول على ثواب عظيم ،و مكانة رائعة ،و المساهمة في نهضة المجتمع ،و تطوره ،و خلال السطور القادمة سوف نوضح تفصيلاً أهمية العفو ،و التسامح في الإسلام . حثنا الإسلام دين السماحة ،و الرحمة على التحلي بالأخلاق ،و القيم الحميدة ،و من بينها العفو و التسامح ،و قد جاءت الكثير من الآيات القرآنية ،و الأحاديث النبوية الشريفة التي تحدثنا عن أهمية العفو و التسامح ،و فضلهما ،و يمكن إيجاز أهمية العفو و التسامح فيما يلي :-
1) التخلص من العداوة ،و الكراهية ،و غرس المحبة في نفوس الناس ،و هنا نتذكر قول المولى عزوجل في كتابه العزيز بسم الله الرحمن ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) صدق الله العظيم .
2) يهدف العفو ،و التسامح إلى تقدم ،و نهضة المجتمع ،و القضاء على عدد كبير من المشكلات التي تنشأ بين أبنائه ،و بالطبع من أبرز ثمار التخلص من هذه المشكلات .. الإهتمام بالبناء و التعمير .
3) يصبح الإنسان متمتعاً بشخصية إيجابية ،و أكثر انشغالاً بمستقبلاً ،و طموحاته التي يسعى إليها.
4) الفوز بمغفرة الله سبحانه ،و تعالى ،و محبته ،و جنته يتأكد ذلك من خلال هذه الآية الكريمة .. بسم الله الرحمن الرحيم .. ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) صدق الله العظيم ،و في آية آخرى يقول بسم الله الرحمن الرحيم .. ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) صدق الله العظيم
5) الفوز بالعزة يوم القيامة .. ،و هنا نتذكر حديث النبي صلى الله عليه و سلم .. عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( ثلاثٌ – والذي نفسي بيدِه – إن كنتُ لَحالفًا عليهِن: لا يَنقُصُ مالٌ من صدقةٍ؛ فتصدَّقوا، ولا يَعفو عبدٌ عن مَظلمةٍ، إلا زادَه اللهُ بِها عزًّا يومَ القيامةِ، ولا يفتَحُ عبدٌ بابَ مسألةٍ، إلا فتحَ اللهُ عليهِ بابَ فقرٍ ) صدق رسول الله صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم .
6) التسامح ،و العفو .. يزيد قدرة الفرد على ضبط نفسه ،و التخلص من الرغبة في الإنتقام ،و الإبتعاد عن الحقد ،و الكراهية ،و ما ينتج عنه ،و من هنا تبين أن العفو ا،و التسامح خير دليل على قوة الشخصية ،و ليس على ضعفها كما يظن بعض الأشخاص .
7) الفوز بمحبة الآخرين ،و تقديرهم ،و بالإضافة لذلك نجد أن العفو و التسامح يسهموا في تحسين نفسيه الفرد ،و تخلصه من الأفكار السلبية ،و العادات الغير مستحبة التي تشغله عن تحقيق أهدافه الأساسية .
خلاصة القول فإن الاستفادة من هذا التراث الاسلامي والتوعية له واقامة الندوات من شأنها ان تصفى النفوس وتقرب القلوب وتباعد التباغض و الحقد والكراهية .
ثانيا : في العرف :
لاشك ان العرف لها دور كبير في حل المشاكل في المجتمع الليبي فقد يكون الاحتكام الى العرف اجدى واحسن في حل الخلافات الاجتماعية وتقريب القلوب وارضاء النفوس
ان الميعاد او المسار كما يسمى في ليبيا “القضاء العرفي” أو التحكيم ، حقنت دماء كثير من الأبرياء، وردت الحقوق لعدد كبير من الضعفاء والمظاليم, واقتصت من بعض القتلة والمتجبرين، وحفظت الأعراض وحمت العهود والاتفاقات.
والقضاء العرفى أعراف تحكم القبائل العربية والعائلات الكبيرة, تمزج بين أحكام الشريعة الإسلامية وما اتفق عليه التقليد السائد في مجتمع القبيلة والأعراب, وهومؤلف من مشايخ القبائل ومحكمين عرفيين يتمتعون بسداد الرأي والبصيرة والخلفية الدينية والزعامة الشعبية عند جمهور العرب ويحل بديلا عن القضاء الحكومي في كثير من الأحيان وقد يكون اجدى لأنه ينهي الخصومة من جذورها بتراضي الطرفين وعودة الحياة الطبيعة بينهم بينما تنهي المحاكم الخصومة بحكم قضائي الا ان النفوس تظل متباعدة .
ان العلاقات الاجتماعية ودور العرف كان سببا في استتباب الأمن في المنطقة الشرقية من ليبيا وهي المناطق التي تسكنها القبائل : مثل مدن ومناطق اجدابيا والابيار والمرج والبيضاء وطبرق . فرغم غياب الدولة فقد كان الامن مستتبا الى حد كبير .
وفي بلادنا سوابق تاريخية معروفة نذكر بعضا منها :
1) عندما انتهت الحرب العالمية الثانية بفوز الحلفاء وكان الملك ادريس قد تحالف من البريطانيين وشارك بجيش في تحرير ليبيا من الايطاليين، فقد كان الكثير من الناس قد تعاونوا مع الايطاليين في تعذيب الليبيين والوشاية التي أدت الى اعدام ا لكثير منهم وآخرها مذبحة ( فيا كاوا بالمرج) وعاد الامير ارديس الى ليبيا سنة 1946 واستقبل استقبالا حافلا من جميع القبائل والمدن وقد تجمع حوله الناس الذين تضرروا وطالبوا بالقصاص من الذين تعاونا مع الايطاليين وكانوا مصرين على ذلك الا ان توجيه الامير ادريس الذي كان له نفوذ دينار انه لايمكن ان يبقي في مجتمع يقتل بعضه بعضا وقال عبارته المشهورة ( حتحات على مافات ) وهي تعني نسيان الماضي وقال بهم اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لأعدائه الذين شردوه وطردوه من بلاده وقتلوا اقاربه وجنوده قولته ا لمشهورة ( اذهبوا فانتم الطلقاء )
2) حرب قبيلتي العبيدات و البراعصة اليت استمرت اكثر من عشرين عاما وقد تم حلها عرفيا بالتراضي فاصبح المتحاربون بالأمس اصدقاء تسود علاقاتهم الود والتفاهم .
ثالثا : نظرة في قانون العدالة الانتقالية :
لاشك ان قانون العدالة الانتقالية رقم هو الوسيلة لتطبيقها الا ان هذا القانون رغم تشكيل لجنته من شخصيات وطنية وقضاة متقاعدين من كبار رجال القضاء السابقين الا انه جمد منذ سنة 2015 بسبب الانقسام السائد في البلاد ووجود حكومتين والاختلافات حول الاتفاق السياسي الليبي .. ولعل اكبر مشكلة الان هي تجميد هذا ا لقانون بايقاف الدعم على الهيئة الوطنية للمصالحة و العدالة الانتقالية ، فإننا نهيب بمجلس النواب الموقر ان يفعل هذه الهيئة حتى تقوم بواجبها .

* اعداد : سعدة سعيد حمد امتوبل
نائبة النيابة العامة – طالبة دارسات عليا بجامعة تور بفرنسا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق