خواطر حول الحوار
خواطر حول الحوار
بقلم : د. زاهي بشير المغيربي
يتطلب أي حوار توفر مجموعة من الأسس والمقومات التي ترجح فرص نجاحه وتقلل من احتمالات فشله. وتواجه عملية الحوار الوطني الليبي مجموعة من المعضلات والعوائق التي تحدث عنها الكثيرون والتي تمحورت حول مجموعة من التساؤلات، منها: مدى النجاح في تحديد أولويات الحوار وقضاياه الأساسية؛ مدى تمثيل الأطراف المتحاورة للقوى المتنازعة على الأرض ومدى قدرتها على فرض نتائج الحوار على هذه القوى؛ مدى إسهام الحوارات المتعددة والمتوازية في فرص نجاح الحوار الأساس؛ وأخيرا مدى قدرة الطرف المشرف على الحوار (الأمم المتحدة وممثلها) على إزالة شكوك الأطراف المتحاورة وإقناعهم بحياده ووقوفه على مسافة واحدة من جميع الأطراف، قولا وعملا.
ورغم أهمية ومشروعية هذه التساؤلات، فإنني أزعم أن عملية الحوار تواجه معضلتين رئيستين:
أولا: غياب رؤية مجتمعية مشتركة حول ما الذي تعنيه ليبيا؟ وما يجب أن تكون عليه؟ وما الذي يعنيه مفهوم الدولة الديمقراطية المدنية؟ وما مضامين حقوق المواطنة؟ فلكل طرف رؤيته ولكل طرف ثوابته وأولوياته، ما يعني أن طرح هذه القضايا على مائدة الحوار والتوافق حولها له الأولوية على أي ترتيبات مؤسسية من قبيل حكومة وحدة وطنية أو مجلس رئاسي أو مجلس أمن قومي أو مجلس للبلديات. بدون التوافق حول الرؤية المشتركة وثوابت الدولة الديمقراطية المدنية، يتحول تشكيل هذه المؤسسات إلى عملية محصاصة وترضية لهذا الطرف أو ذاك، وقد انعكس ذلك بوضوح في مخرجات الحوار السياسي وفي تشكيل الحكومات المتعاقبة.
ثانيا: غياب الإيمان بالحوار بوصفه السبيل الأنسب والأقل كلفة، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا ونفسيا، لصياغة الرؤية المشتركة والتوصل لحلول ناجعة لمشاكل الوطن وقضاياه. إنني أزعم، وأرجو أن أكون على خطأ، أن بعض أطراف الصراع تعتبر الحوار خيارا مؤقتا تلجأ إليه بحكم الضرورة وليس نابعا عن قناعة راسخة بأهمية الحوار وجدواه. والدليل على ذلك أن هذه الأطراف تنادي بالحوار والتوافق عندما تشعر أن موازين القوة (العسكرية أساسا) ليست في صالحها، وتهجره أو تعرقله حالما تشعر بأن هذه الموازين قد تغيرت لصالحها. ولعل الأحداث الأخيرة تقدم شواهد جلية عن ذلك. وما لم يصبح الحوار خيارا إستراتيجيا راسخا وليس مجرد ردود أفعال لظروف وأوضاع وموازين قوى وقتية، يسهل على هذه الأطراف النكوص عنه حال تغير هذه الظروف والأوضاع والموازين.
إن الترابط بين هذين المعضلتين وثيق وحيوي. فمن ناحية، يتعين أن نتوصل إلى رؤية مشتركة حول الكيان الوطني والهوية الوطنية، هوية تستوعب الهويات التحتية والفوقية ولكن لا تصبح رهينة لإحداها، وإلى رؤية مشتركة حول مضامين الدولة الديمقراطية المدنية ومن أهمها التوكيد على: مبدأ المواطنة المتساوية التي لا تقصي أي طرف من العملية الديمقراطية؛ شرعية التداول السلمي الديمقراطي على السلطة عبر العملية الانتخابية؛ بناء دولة القانون والمؤسسات وسيادة القانون؛ احتكار الدولة للسلاح واستخدامه الشرعي عبر مؤسستي الجيش والشرطة الرسميتين وحظر أي تشكيلات عسكرية خارج هاتين المؤسستين تحت أي مسمى.
من ناحية أخرى، فإن التوافق على مبادئ ومضامين الدولة الديمقراطية المدنية يعني التوكيد على أنه لا مكان للسلاح والعنف والإرهاب أداة لحل الخلافات أو لفرض الرؤى والبرامج والأهداف، وعلى أن الحوار هو الخيار الإستراتيجي لجميع الأطراف.