هل الليبيون أكثر الشعوب توددا وتهكما وتعاطفا
بقم : د. نجيب الحصادي
أذكر أن الدكتور علي فهمي خشيم قال ذات مرة إن الليبيين في دارجتهم لا يترددون في تصغير أي مفردة مالم يشق عليهم تصغيرها لأسباب صوتية صرف. أفكرت في الأمر فوجدت أنه لا يكاد يقف شيء في مسيرة التصغير الليبية: الشياطين والملائكة، الأمكنة والألوان، الأكلات والمشروبات، النوم والطريق، الأجهزة الكهربائية والملابس، الحيوانات والطيور؛ وحتى الشجر والحجر؛ احويطة، وانخيلة، وانويرة، وانعيمة، واكريسي، واسبيسي أمثلة على آخر بندين في هذه القائمة. ولأن الأقربين أولى بالمعروف، لا تجد قريبا لم يطله تصغير الليبيين، والحفيد، الذي استثني من قائمة تصغير الأقارب، لم يستثن منها إلا لأن القاموس الليبي لا يفرد لفظة خاصة للحفدة. “الصغار”، على صغرهم، يطولهم التصغير، وكذا شأن “البحر”، على وسعه. وعلى الرغم من أن الفصحى تستثني لفظ الجلالة والشهور من التصغير، فإن الليبيين يدعون الله “ربيبي”، ويسمون أحد الشهور العربية “تويبعه”.
أسماء العلم موضع مناسب لممارسة هواية التصغير. ليس هناك شعب عربي آخر يسمي امهيدي، وامويلة، واسويحل، واعويدات، وامبيريكة، واوريدة، وامعيتيقة، وادريهيبة. أسماء العائلات الليبية المصغرة يصعب حصرها، ففضلا عن تصغيرات مملكة الحيوان، السبيع والضبيع والجميل والذويب والطوير والدويك، وعجيل وقطيط وحميّر وحنيش وجريبيع؛ هناك أسماء العائلات المشتقة من أعضاء الجسد، مثل بورويس، وبوعوينة، وبورقيبة، وبوبطينة، وبوالصويبعات، ولا ننسى بالطبع “خشيم” نفسه.
أسماء الأحياء السكنية في المدن تصغّر بدورها، ففي بنغازي مثلا نجد سيدي عبيد وسيدي خريبيش والزريريعية والوحيشي والمحيشي وبوهديمة والفويهات والرويسات. وكذا شأن أسماء القرى والمدن؛ ففضلا عن العجيلات والعوينات وبويرات الحسون والجميل، لدينا الزويتينة والبريقة والعقيلة، وهذه الأخيرة مدن ينبئ تجاورها بأن القبائل التي تسكنها تجد متعة في ممارسة هذه اللعبة البلاغية. في المقابل، تكاد لا تجد في بلد كمصر اسم علم أو حيا أو قرية أو مدينة أو محافظة صيغ اسمها وفق إحدى صيغ التصغير، ولعل “البحيرة” هي الاستثناء الوحيد.
حين يشرع صديقي الشاعر عبد السلام العجيلي في شرح باب التصغير لتلاميذه، يبدأ بسرد قصة قصيرة تقول “كان فيه عجيّز غلبها الجوع، خشت شويرع، لقيت بويب، طقت عليه، طلعتلها بنية، لابسة قفيطين، وسبيبيط، وعلى راسها محيرمة، قالتلها تفضلي يا حويجّة، ومدتلها كسيرة خبزة وطويسة شاهي..”. حين يسمع الليبي قصة كهذه، لا يحس بأي تكلف، بل إنه قد لا ينتبه إلى المبالغة في استخدام صيغ التصغير.
غالبا ما يراد من التصغير التحبيب (الترجيب). بيد أن غاية التصغير قد تكون التقليل من شأن المصغر، كما في “ارويجل”، و”اعسيكري”. وطالما تحدثنا عن الترجيب، نذكر أن الأم الليبية تدفع الحسد عن وليدها بتميمة “خميسة وحويته وقرين”.
يقول بشلار، “حين يلمّع الشاعر قطعة أثاث في قصيدته فإنه يضمها إلى كتيب العائلة الإنساني.” يبدو أن كتيب العائلة الليبي حافل بالكائنات، وأن التصغير طريقة الليبيين المفضلة في إضفاء قيمة إنسانية على الأشياء؛ بعث الحياة فيها بجعلها تارة موضعا للإعجاب وأخرى للسخرية وثالثة للرثاء.
قد تكون اللغة الإيطالية مسؤولة نسبيا عن هذه الظاهرة. غير أنه بحسبان أن شيوع تصريفات الصيغ التصغيرية قد ينبئ بسطوة مثل هذه المشاعر على الوجدان الليبي، لنا أن نتساءل ما إذا كان الليبيون من أكثر الشعوب توددا وتهكما وتعاطفا.