مقالات

حسابات المكسب والخسارة للغرب في الحرب الأوكرانية

بقلم: د. سالم بن غربية

أثبتت الأزمة الأوكرانية الحالية أن حساب المكاسب والخسائر لطرفٍ بعينه، لا يمكن أن يُفضِي إلى نتائج مطلقة أو حدية، بحيث يُعتبَر أحد أطرافها هو الرابح على طول الخط، والآخر خاسراً خسارة مطلقة. ورغم محاولة الدول الغربية تصدير صورة الرابح المطلق، مهما طال أو قصر أمد الأزمة، نتيجة نجاعة العقوبات الاقتصادية والحصار السياسي المفروضَين مؤخراً على روسيا، فإن تفنيد المكاسب والخسائر الحالية والمحتمَلة، يشير إلى أن الرابح النهائي لم يتحدد بعد، وأن عناصر الربح قد تحوي بين طيَّاتها عوامل الخطر، متحولة إلى خسائر فادحة من الصعب تداركها. من هنا، تكمن أهمية تفنيد المكاسب والخسائر الفعلية والمحتملة للدول الغربية من جراء الحرب الروسية على أوكرانيا، بقدر من التفصيل، بما قد تسهم في إعادة مراجعة الأحكام المطلقة الناتجة عن الصورة الخارجية لتداعيات ومألات الحرب ومستقبل روسيا بعد تلك الحرب، في محاولة لاستشراف الحساب الختامي لهذه المعادلة التي تبدو صعبة على جميع الأطراف إلى حد بعيد.

مكاسب مختلطة

يمكن إلقاء الضوء على أبرز حسابات المكاسب الفعلية والمحتملة للدول الغربية من الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ وذلك على النحو الآتي:

  • تحقيق عزلة سياسية دولية غير مسبوقة لروسيا: تقدر الدول الغربية أن العنصر المهم الذي أضاف زخماً على العقوبات الاقتصادية – التي سبق أن اختبرها النظام في موسكو طويلاً – هي العزلة السياسية غير مسبوقة التي تعرَّضت لها روسيا؛ فلطالما كان لروسيا بعض الدول الحليفة التي تدعمها على طول الخط بغض النظر عن نمط التحرك الروسي، إلا أن الأزمة الحالية شهدت تباعد مواقف هذه الدول عن الحليفة الرئيسية روسيا ولو كان على المستوى الظاهري فقط. فقد شهد التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، تصويت كافة الدول العربية لصالحه، عدا الجزائر والعراق والسودان التي صوتت بالامتناع، بما فيها الدول التي تربطها علاقات واسعة مع روسيا (مثل مصر وليبيا)، فضلاً عن تغيير دولة الإمارات العربية نمط تصويتها في مجلس الأمن من الامتناع إلى التأييد في الجمعية العامة، ناهيك عن المواقف التصويتية غير المتوقعة من كوبا وإيران وزيمبابوي وفنزويلا التي كان يُتوقَّع منها التصويت ضد القرار وليس الامتناع أو التغيب. يُضاف ذلك إلى نجاح الدول الغربية في تمرير قرار مماثل في مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يركز على أمن وأمان المنشآت النووية في أوكرانيا، بتأييد 26 عضواً، وامتناع 5 أعضاء، ومعارضة عضوين فقط.
  • تكبيد الجيش الروسي خسائر مادية معتبرة: إذا بدا انتصار بوتين العسكري حتمياً، نظراً إلى الخلل الكبير في ميزان القوى العسكرية لصالحه، فإن هذا الانتصار له كُلفة بشرية ومادية كبيرة بالنسبة إلى موسكو. بالدعم الغربي لأوكرانيا أسهم في تدمير الكثير من المعدات العسكرية الروسية، بجانب مقتل واعتقال بعض الجنود الروس. هذا ويقدر الغرب أن روسيا قد دفعت بالفعل تكلفة عسكرية باهظة، ولو لم تعترف بذلك رسميّاً، بدليل عدم قدرتها على غزو مدن أوكرانيا الكبرى حتى بعد مرور أكثر من أسبوعين على العملية العسكرية التي بدأت في 24 فبراير 2022، وهو ما تُرجعه الدول الغربية إلى مبالغة روسيا في تقدير قدراتها والاستهانة بالدعم الغربي لأوكرانيا.
  • وضع “بوتين” بين شقَّي الرحى داخليّاً: بعد الحصار الاقتصادي الصارم الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا، ترى دوائر صنع القرار الغربية أن الانتصار السياسي سيتحقق لا محالة؛ نتيجة انعدام الخيارات أمام “بوتين”؛ فتمادى الرئيس الروسي في الحرب يعني استمرار العقوبات الاقتصادية التي من شأنها أن تنخر عظام الاقتصاد الروسي رويداً رويداً؛ ما يزيد احتمالات انقلاب كبار رجال الكرملين على بوتين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي الوقت نفسه، فإن انسحاب بوتين من أوكرانيا وإيقاف الحرب في هذا التوقيت، يعتبر بمنزلة إعلان هزيمة رسمي دون الخروج بمكاسب فعلية؛ ما قد يؤدي في النهاية إلى النتيجة السالفة الذكر. لذلك تقدر دوائر صنع القرار في الغرب، أن بوتين قد دخل بالفعل نقطة اللا عودة، والمساحة التي تنعدم فيها المناورة؛ حيث قد يؤدي أي تحرك بالتمادي أو بالتراجع إلى الإطاحة ببوتين نفسه، أو على أقل تقدير انهيار صورته ووضعه السياسي دوليّاً.
  • وضع الصين في مأزق استراتيجي: يعتبر التحالف الصيني الروسي من مُسلَّمات العلاقات الدولية في الوقت الراهن؛ حيث تجتمع القوتان العُظميان في تجمُّعات سياسية وعسكرية واقتصادية، مثل منظمة شنجهاي للتعاون، و”بريكس”، كما تتقارب مواقفهما إلى حد بعيد في مجلس الأمن، يتفقان من حيث تدهور علاقتها بالولايات المتحدة. إلا أن الغرب يرى أن التدخل الروسي في أوكرانيا وضع الصين في مأزق دبلوماسي حقيقي؛ فالصين عليها أن تُمسِك العصا من المنتصف؛ وذلك بعدم إدانة روسيا مع عدم دعمها مباشرةً؛ اقتصاديّاً أو عسكريّاً، لتحافظ على علاقاتها الاقتصادية المتشعبة بكل من أوروبا والولايات المتحدة نفسها. وهو ما قد تعتبره موسكو غير كافٍ في ظل الحصار الاقتصادي الشديد المفروض عليها من الدول الغربية. كما أن الصين لم تعتد خوض أي معارك كبرى خارج أراضيها منذ عام 1979، على عكس روسيا التي تدخلت عسكريّاً في جورجيا وأوكرانيا وسوريا وليبيا، وهي بذلك تجد نفسها أمام موقف محرج يضعها أمام خيار صعب يتمثل في التخلي عن سياسة عدم التدخل في شؤون الغير، التي تبنتها لعقود طويلة، وهي كلها عوامل يعتقد الغرب أنها قادرة على تقييد قدرة بكين على التحرك لصالح روسيا، ومن ثم يعتبرها مكسباً خالصاً له.
  • تعزيز قدرات “الناتو” والدفاع الأوروبي المشترك: يرى الغرب أن التدخل الروسي في أوكرانيا قد عزز، على الفور، مبرر وجود حلف “الناتو”، الذي مر منذ حل حلف “وارسو” عقب انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، بعدة أزمات وجودية تضع استمراره موضع الشك؛ فقد وضعت الحرب في أوكرانيا حدّاً للأسئلة الهادفة إلى التشكيك في أهمية “الناتو” والمَبالغ الطائلة التي تُنفَق على ميزانيتها الدفاعية. كما عززت الحرب التعاون العملياتي داخل الحلف، الذي قام لأول مرة في تاريخه بتنشيط قوة الرد السريع، التي تم التخطيط لها لأول مرة في قمة براغ في عام 2002. بالإضافة إلى ما تقدَّم، يقدِّر الغرب أن هذه الصدمة تعتبر علامة على الظهور الحقيقي للاتحاد الأوروبي كقوة جيوسياسية؛ وذلك لأن الدول الأوروبية تناضل منذ سنوات لبناء سياسة مشتركة في مجال الدفاع، وقد حفَّزت العملية العسكرية في أوكرانيا النقاش الجاد والموضوعي داخل أروقة الاتحاد حول هذه المسألة؛ ففي 27 فبراير 2022، وافق الاتحاد الأوروبي بالفعل على “تمويل شراء وتسليم الأسلحة والمُعدَّات إلى أي بلد عضو يتعرَّض لهجوم محتمل”، وهو الأمر الذي تعتبره كل من واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي مكسباً مهمّاً طال انتظار تحقيقه.

خسائر معتبرة

على الجانب الآخر، يمكن استعراض أبرز الخسائر القائمة والمُحتمَلة للدول الغربية من الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وذلك على النحو التالي:

  • عدم القدرة على ردع روسيا منذ البداية: إذا كان من المؤكد أن العقوبات الاقتصادية والحصار السياسي قد أثبتا قدرة الغرب الفائقة على تضييق الخناق على روسيا كقوة عظمى، فإن ذلك لا ينفي أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة قد فشل فعليّاً في منع هذه الحرب من الحدوث؛ ما يؤشر على ضعف وسائل الردع التي يمتلكها بين يديه؛ وعدم القدرة على منع الحرب قد سبَّب بالفعل خسائر مادية وبشرية هائلة في أوكرانيا لا يمكن إغفالها، خاصةً أن الدول الغربية وجدت نفسها مضطرة إلى تخصيص مزيد من الأموال لتعويض أسر الضحايا ودعم الوضع الاقتصادي في كييف، كان آخرها تخصيص الولايات المتحدة 136 مليار دولار مساعدات لأوكرانيا ضمن قانون الاعتمادات الذي تمَّ إقراره يوم 9 مارس 2022
  • التبعات الاقتصادية السلبية على القارة الأوروبية: أدَّت العقوبات الاقتصادية إلى شلل قطاعات واسعة في الاقتصاد الروسي، بما فيها القطاع المصرفي وصادرات الطاقة، وهي التبعات التي كان لها أثر سلبي جمٌّ على اقتصادات أوروبا وحركة التجارة العالمية، مؤدية إلى ارتفاع مستويات التضخم العالمية؛ فقد ارتفع سعر برميل النفط إلى 140 دولاراً، وتعرَّضت سلاسل إمداد تصنيع السيارات لمزيد من العجز الهيكلي الذي كان قائماً بالفعل، كما ارتفعت أسعار القمح إلى أعلى مستوياتها منذ 14 عاماً، مع نقص في الإمدادات. كل هذه الآثار الاقتصادية طالت الدول الغربية نفسها وحلفاءها كذلك، وهي خسائر رقمية لا يستطيع أحد إنكارها أو التنصل منها، ناهيك عن الخسائر الفادحة التي تكبدتها الشركات الغربية ذات الأصول الكبيرة في روسيا.
  • فتح جبهة بيلاروسيا أمام الأسلحة النووية الروسية: نتيجة تقييد الخناق على روسيا ومحاصرتها اقتصاديّاً بوجه عام، وجغرافيّاً من جهة الغرب (الدول المتاخمة لها أعضاء في حلف الناتو)؛ بدت العلاقات بين موسكو ومينسك تشهد تقارباً مقلقاً للدول الغربية؛ ففي 27 فبراير 2022، تم تمرير تعديلات دستورية في بيلاروسيا يُسمَح بموجبها روسيا بنقل الأسلحة النووية داخل أراضي جارتها؛ حيث تتخلَّى بموجبها أيضاً بيلاروسيا عن وضعيتها باعتبارها دولة خالية من الأسلحة النووية، وهو أمر يدفع كثيراً من الدول الغربية إلى الاعتقاد بأن الأزمة الأوكرانية قد أسهمت في زيادة مخاطر الانتشار النووي لصالح روسيا.
  • تفجير أزمة لاجئين ونازحين جديدة في أوروبا: بعد أربعة أيام فقط من اشتعال الحرب، بلغ عدد اللاجئين الأوكرانيين الفارين إلى الدول المجاورة نحو 368 ألف أوكراني؛ منهم 200 ألف في بولندا وحدها، ولا تزال الأعداد في تزايد مستمر مع تواصل العمليات الحربية، خاصةً في رومانيا والمجر بجانب بولندا. هذه الأزمة من شأنها أن تؤثر جزئيّاً على أمن الحدود والاستقرار الداخلي للدول الأوروبية المتاخمة لأوكرانيا، وهي الفاتورة التي تراها هذه الدول نفسها فاتورة جماعية يجب على الجميع تحمُّل تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية، تجنُّباً لتفاقم الوضع الداخلي فيها، في ظل معاناة أسواقها الداخلية أصلاً من أزمات اقتصادية واجتماعية هيكلية معقَّدة.

وختاماً، فإنه في التقدير الأخير، لا يمكن إغفال الوضع الاقتصادي المتأزم، والحصار السياسي الذي تمر به موسكو، إلا أن فكرة وجود خسائر فعلية للمعسكر الغربي قد تدفع “بوتين” نحو مزيد من التصعيد وتبني سياسة “النفَس الأطول”، على أمل تصاعد الضغوط الداخلية في هذه الدول؛ نتيجة موجة التضخُّم العالمية، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة. هذا وتجدر الإشارة إلى أن عامل الوقت سيلعب دوراً محوريّاً في تحديد إذا ما كانت بعض المكاسب والخسائر السابق ذكرها ستتحوَّل إلى الضفة الأخرى، مؤديةً بدورها إلى تغيير قواعد اللعبة وترجيح كفة كانت تبدو خاسرة في وقت ما.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق