ثقافة وفنون

بوصلةُ الذات لاكتناهِ معنى الوجود … قراءة تأملية في رواية (حرب الغزالة) لعائشة إبراهيم

بقلم: الأديب مهدي ازبيّن / العراق

أية غزالة؟
حتى نهاية الرواية لم تحدث حرب بسبب الغزالة، إنما استقرت رحلة السرد على شفا صراع وجود قد يفضي إلى فناء مسرح الأحداث، ويقضي على مكان ترعرع الغزالة، أو أن الغزالة إسقاط على شخصية (هيريديس) وحضورها اللافت في حنايا الرواية، وتأثيرها على مسار الروي وحركة الشخوص؛ فهي تسببت بنشوب حرب غير معلنة مع الملكة (تندروس)، بعد أن غدت أسطورة إثر هزيمتها (هيرماس) مسؤول القصر الملكي، وارتفع نجمها حين قادت الجيوش لتحقق نصرًا كبيرًا على الأعداء المتربصين، وازدادت أهميتها في نظر الشعب وأخذ كثير منهم يؤلّهونها ويسجدون لها أنّى تحل.
حرب الغزالة/
صراع مستدام بين قطبي ثنائية الجمال والقبح، ومتوازياتها من الخير- الشر، النور- الظلام..
جنح النص إلى اختزال الجمال في خلاصة تهجين سلالة من الغزلان لتصل ذروتها في الرمز (سافي)، فقد نجح حاوي الجمال المحترف (ميكارت) في إبراز جوانبه المبهرة وأضفى على صورتها الظاهرة سلوكيات مدهشة تتمثل بعذوبة انسجامها معه والاستجابة المباشرة لبوصلة توجيهاته، وبراعتها في التعبير الحركي بتأثرها بمعزوفاته، وما تؤديه من رقصات رشيقة..
تحلّ غزالة من الإنس في المملكة الافتراضية، (هيريدس) التي تتمتع بجمال ظاهر وتصنع صور الحسن في تصاميم الأزياء وخياطتها، وتزيينها بالحلي لينطق القماش المنسوج على الأجساد صورًا باذخة الإبداع، وتفاجئ الجميع بانتصارها على رمز الطغيان وأدوات السلطة الفاقدة لإنسانيتها (هيرماس)، غدت أسطورة بفطنتها وشجاعتها وأسلوبها وحركاتها المتسارعة والمفاجئة إثناء مواجهة الأعداء..
التقت الأسطورتان في مساحة صغيرة هي قلب (ميكارت)، لكن الغزالة الأولى تُخطفها جهات طامعة بامتلاك كل شيء نادر وجميل، وبقيت الغزالة الإنسية (هيريديس) تتعرض لسهام الغيرة من الملكة (تندروس) التي تبدأ بنسج المؤامرات للتقليل من شأنها ومحاولة القضاء عليها، فتلجأ في تنفيذ مآربها إلى (ميلائيل) الذي لا تنجح مساعيه في إنهاء سطوة غريمتها ومكانتها في قلوب الناس، تلتمس الملكة رجاءها لدى (هيرماس) الذي تشكلت شخصيته من عقد اجتماعية جعلته يشعر بنقص وسمه بعدوانية كامنة؛ تتحول إلى فعل أهوج مصطبغ بالدماء.
تواصل (هيريديس) تألقها في المتن الروائي وتحاول إضفاء بعدٍ آخرَ إلى تكوينها وحضورها الساحر، تمظهر هذا في رحلتها لاكتشاف صانع لهذه الحياة وكل هذه الكائنات وجامع للأرباب والآلهة، تنقّب في داخلها عن معنى الوجود، يرافقها في هذه الرحلة الفنان (ميهلا) الذي يمتلك بعض مفاتيحها ويجدّ في الوصول إلى دلالات الأشياء والتعبير عنها بالخطوط والألوان، يسعى للقناعة أن هناك يدًا أعلى وأبقى تحرص على صنع هذه التكوينات من البشر وكل الموجودات، فتقول هيريديس لميهلا/
(يقول جدي: إن علينا أن نملأ الفراغ الذي في داخلنا بقوة الذات المطلقة، طلب مني أن أبحث عنها دون أن يخبرني، لكنه قال إنني سأجدها يومًا) ص49
يقابلها ميهلا/
(النقص الذي يعتور داخلنا هو دليل على وجود ما يكمله في مكان آخر) ص 50
وقد نوّهت الساردة إلى ذلك في مشهدين نهايتهما الموت: موت (ارمان) ابن الفنان وموت الغزالة حين يودعان الحياة وعيونهما ترنو تطلق مساراتها نحو الفوق، يشيران/ يشخصان بالأبصار إلى قوى لا يراها غيرهما، وتقول في مكان آخر من متن الرواية عن أهمية الزمن في وجود الإنسان ومدى تحوّله إلى ثروة تحاذي الرفاهية إن أحسن استغلاله وتوظيفه/
(عنصر الزمن هو سر الحياة للإنسان وإذا تعلم كيف يحسبه جيدًا) ص89
وتطرح رؤيتها عن التملك ومناطق النفوذ وتناقش رؤاها في حوارية مع صانع الإبداع ميهلا/
(الامتلاك عبودية ترهن المالك لمنطقة نفوذه وتختم بأقفالها على قلبه..) ص106
وتقرأ الأماكن بعين الرائي الشاعر الذي يسقط خلجات النفس البشرية على الجماد ويؤنسنه/
)المكان كالإنسان إذا فقد بريق الجاذبية ولم يعد قادرًا على إثارة الإعجاب يختفي معه حس الإدهاش وينقلب إلى شيء باهت تمضغه الكآبة) ص113
وتبوح برؤيتها عن الجمال وعلاقته بالقناعات وكيفية التفاعل بينهما/
)أنا أؤمن بأن الجمال شيء أساسي ليكتمل اليقين) ص148
وتعود لتؤكد/
)هناك رابط قوي بين الجمال والإيمان، لا يمكن أن تنبثق تلك المشاعر والقيم إلا وكانت مقترنة بمشاهد الجمال) ص148
وتراءى لـ (هيريديس) أن الحياة تتأسس على ثنائية البعث والفناء وتتداخل الدلالة بينهما ليشكلا أبعاد الحياة المتواصلة/
)نهاية القصص تبدو أحيانًا مثل بداية قصص أخرى وبعض الموت يبدو مثل ميلاد جديد للحياة، بل هو الحياة ذاتها) ص174
ليتساوق المبنى الحكائي في (حرب الغزالة) على نهايات مفتوحة تشرع الأبواب على كل الاحتمالات، موحية بتجدّد السرد وتشعّب هذه الحرب إلى صراعات وحروب أخرى، تنفتح على آفاق قديمة- جديدة وأزمنة متمددة متأرجحة تراوح بين الماضي والمستقبل.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق