ثقافة وفنون

الغرام بالفلسفة مع الدكتورة كريمة بشيوة

بقلم : يونس الفنادي

(الوجود والعدم) للمفكر جان بول سارتر هو أول كتاب فلسفي طالعته في بواكير القراءة العاشقة وأظن أن ذلك كان في بداية المرحلة الأعدادية من عمري التعليمي، تلته كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي وأسئلته حول الحضارة والقابلية للاستعمار، والمدينة الفاضلة لافلاطون، ومن ثم سيكولوجية الإنسان المقهور للدكتور مصطفى حجازي وبعض كتب ابن رشد وغيرها التي أكدت لي جميعها بأن الفلسفة لا ترتبط بالتاريخ والاجتماع والمنطق والسياسة والدين فحسب بل هي مدخل وروح كل القراءات لجميع العلوم، تأسيساً على أن الفلسفة هي فعل عقلي وذوقي يطلق العديد من الأسئلة المركبة التي تتوالد وتتوغل في مفاهيم أي نص أو كتاب أو علم، وتتعداه إلى تعميق الإستيعاب والفهم الفكري والإيمان به، ومن ثم إلى الفعل والحركة في شكل إفراز وتطبيق سلوك متأثر بكل ذلك.

مساء الأمس كانت الفلسفة بكل ما تحمله من متعة وتشويق وإعمال للفكر الإنساني حاضرة في محاضرة الدكتورة “كريمة بشيوة” الأستاذة الاكاديمية في هذا المجال. ومنذ أن باشرت الدكتورة الحديث عن علاقتها الغرامية بالفلسفة والقاعة غارقة في الإنصات والإنبهار، رغم أنها لم تعتمد في محاضرتها على محاور أو مذكرات أو أوراق مكتوبة بل تحدثت بكل عفوية، بشكل غير نمطي أو تقليدي، متأسسة في حديتها على تشبعها الفكري بعوالم الفلسفة الروحانية والعقلانية، وسلاسة لغتها العربية العذبة الرصينة الواثقة، وروحها الشاعرة العامرة بالمحبة. وهي بذلك وثقت عرى العلاقة بين العناصر الثلاثة (الموضوع والمحاضر والمتلقي) وربما في هذا استنساخ أو استفادة من المثلث الفلسفي الشهير (الحق والخير والجمال).

طافت بنا الدكتورة كريمة بشيوة في عالمها الخاص موجهة الشكر والامتنان لروح والدها الراحل وفكره المستنير الذي وافقها على تبديل تخصصها من علم الفيزياء إلى دراسة الفلسفة، وكذلك فيما بعد إلى زوجها الدكتور المهدي جحيدر أستاذ الفلسفة والذي كان أحد الحاضرين معنا مساء الأمس الذي وفر لها المناخ اللازم لمواصلة الدراسة والتعمق في هذا المجال. ونسجت من كل ذلك العالم الخاص صلات عميقة لإثارة العديد من النقاط الفلسفية المتعلقة بضبابية المفاهيم السائدة للكثير من المسائل الدينية والاجتماعية وحتى العلمية المتعلقة بمناهج تدريس العلوم التطبيقية والإنسانية بشكل يخلو تماماً من المنهج الفلسفي للتذوق والفهم الصحيح لطبيعة العلوم وغاياتها وتطبيقاتها الحياتية.
المحاضرة أو اللقاء الفلسفي توقف لتأدية صلاة المغرب ثم تواصل حتى صلاة العشاء بحضور أبى أن يغادر عالمه المعرفي الخلاب الذي توسع من خلال الأسئلة العديدة التي فجرها الحاضرون للندوة، فدار الحديث عن الوسيلة والأسباب، والمعتزلة وابن خلدون والغزالي، وهيجل ورقليطس وواشفيستر وبراتراندرسل وكارل بوير، وعن تاريخ الفلسفة ومناهجها، وتأثر الفلاسفة والعلماء بسطوة السلطة وهيمنتها عبر كل العصور، وأن فقر العالم العربي للفلاسفة يرجع إلى الضغوط التي تمارس على حرية التفكير والتعبير. وأكدت الدكتورة كريمة بشيوه انحيازها وإيمانها المطلق بدراسة تاريخ الحضارات بدل الاغراق في تحليل السياسات .
وعند الحديث عن فداحة خسارة العالم من تردي أحوال المسلمين اسئناساً بعنوان ذاك الكتاب المثير للجدل (ماذا خسر العالم من انحطاط المسلمين) ارتفعت زفرات وآهات النفس المنكسرة بوقع آلام التحسر على ما آل إليه الحال الراهن مؤكدة على أن كل شيء لابد أن يتغير لأن التغيير هو سمة الوجود.
انتهت محاضرة الدكتورة كريمة بشيوة وظل هناك الكثير من الشوق إلى عوام الفلسفة المختلفة تفرزه أسئلة فكرية تبحث عن مغاليق إجاباتها من أطراف متعددة سواء كانت أعماق وأفكار الإنسان الفرد، أو برامج وخطط المؤسسات التعليمية، أو توجهات السياسة العامة للدولة، وهذا يجعلنا نترقب مستقبلاً مشرقاً بالعديد من المسرات والتطلعات البهيجة مثلما كانت سائدة بمحاضرة الأمس، فكل الشكر والامتنان لهذه الأستاذة التي أمتعتنا وكذلك للحضور الكريم والمنظمين على اختيارهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق