ثقافة وفنون

محمد المسلاتي يكتب “قصة حب ليبية”

قصّة حبِّ ليبيّة /  قصّة قصيرة
بقلم / محمد المسلاتي
[ الجزء الأول ] منذ أن استأجر سي مفتاح حجرة ببيتنا القديم زوجته عمتي خديجة تنتظر عودته من عمله بالمقهى ، كل يوم أراها تعبرالمسافة بين الحجرة ، والسقيفة مرات ، ومرات ، تفتح الباب ، تُخرج نصف جسدها ، تطل على الشارع ، تتطلع بقلق ولهفة إلى البعيد ، عندما يلوح ، تلمع عيناها مثل طفلة تبتهج لإطلالة أبيها ، وحالما يصل سي مفتاح متمايلًا على دراجته ، تتلقفه بيديها ، تسنده على كتفها، تعاونه على إنزال رجله اليمنى من فوق دوّاس الدراجة ، لتستقر علَى العتبة الإسمنتية ، تخشى عليه من السقوط لعجزه عَن تثبيت قدميه فوقها لقصر قامته ، تصحبه إلى الحجرة ، ثم تعود لإدخال الدراجة ، عند سحبها لسلة الخضروات ، والفواكه ، تنتبه إلى عينيّ المركزتين على محتوياتها ، تلتقط فاكهة ، تمدها نحوي ، أركض فرحًا ، التهمها بنهم ، وهي منهمكة في مسح ، وتلميع الدراجة . خلال المساءات يعبق بخور عمتي خديجة ، تتصاعد سحبه من حجرتها ينتشر برائحته متخللًا فضاءات بيتنا، وحجراته، يخيّل إليّ أنّها تُعيد ليلة زفافها ، وتتزين لعرسها ، تتجدد بأرديتها المخططة ، المتماوجة بألوانها الزاهية بين الوردي ، البنفسجي ، الفستقي ، تتدلى خصلات من شعرها المضمّخ بالحناء ، عند القيلولة تعلن الطوارئ .ليس داخل بيتنا فقط حتى في الشارع ، تخرج إلى الأولاد بحفنات الحلوى ، تنثرها عليهم مطرًا من وردٍ ملوّن ، تقول لهم :-
– – اذهبوا للعب بعيدًا ، دعوا عمكم مفتاح ينام ، الزموا الهدوء ، سأمنحكم مزيدًا من الحلوى .
– ينصرف الجميع في هدوء ، وكأنهم أدركوا أهمية هذه الفترة فأصبحوا يتعمدون التجمع عند عتبة البيت للفوز بعطاياها .
– منتصف النهار رجعت عمتي خديجة تحمل على كتفها كرسيّا خشبيًا صغيرًاتتوسطه فتحة دائرية ، سألتها جدّتي بفضول :-
– – ماهذا يا خديجة ؟
– أجابتها وهي تتجه نحو دورة المياه :-
– كرسي طلبت من النجار أن يصنعه من أجل مفتاح ، المسكين لم يعد بمقدوره الجلوس في الحمام من دون مقعد .
– التفتت نحوي صوّبت إليّ عينيها الغارقتين بسواد الكحل ، قالت:-
– – لا تقرب كرسي عمك مفتاح يا حميدة .
اهتمام عمتي خديجة بزوجها يفوق أيَ تصور ، ولهفتها عليه تظهر في ارتعاشات نبرة صوتها حين تتحدث عنه ، وخوفها من أي شيء يعكّر صفو حياتها ، في كل المواسم ، والأعياد تزهر ملامحها بفرح لا يخفى على أحد، وكأن مجيء العيد ، وتعاقب المواسم من أجل سي مفتاح وحده ، في ليلة عاشوراء لاتكتفي بسلق الحمص ، والفول فقط ، تعدأكلة لفتات أيضًا. تدهشني قدورها الكثيرة المرشوقة على اللهب قدام حجرتها ، تسأ لها جدّتي :-
باستغراب :- –
– لمن كل هذه الكمية من الحمص ، والفول ، ولفتات، أتنتظرون ضيوفًا يا خديجة ؟تبتسم عمتي خديجة ، تقول اثناء نفخها جمرات الفحم :-
– هذا لأولاد الشارع ، والجيران ،
– تشهق جدَتي :-
– – للأولاد ، هذا كثير !
– – تعرفين يارحمة أن أولاد الشارع يرددون ليلة عاشوراء :- ( اللي ما تعطيش الفول ،يصبح راجلها مهبول ) ( اللي ماتعطيش الحمص ، يصبح راجلها ايتلمس ) ( اللي ما تعطيش لفتات ، تطلّق ما عاد اتبات )
– أنا أخاف مما يقولون لذا أسلق الحمص ، والفول ، وأجهز لفتات ، وأوزعه عليهم لدرء الشر،و لا يصيب زوجي مفتاح أيّ مكروه ، أو أتعرض للطلاق منه . ليس لي في هذه الدنيا أحد سواه .
– نقلت ما سمعته إلى أولاد شارعنا ، عرفوا السر ، أدركوا مدى خوف عمتي خديجة ، وتشاؤمها من كل هتاف على حدة ، فصاروا يأتون المرة الأولى ، يهتفون بحصلون على الحمص ، يغيبون قليلًا ، ثم يرجعون مستبدلين كلمات الهتاف فيكون لهم الفول ، ينصرفون ، ويعودون بهتاف جديد ليغدق عليهم لفتات ، الأولاد هم أنفسهم يمارسون اللعبة ذاتها ، يتكررون باستبدال الهتافات طوال ليلة موسم عاشوراء إلى أن تنفد قدور عمتي خديجة جميعها من دون أن تكتشف ذلك .
—————-

[ الجزء الثاني ] ..تذكرتُ يوم أن وقف سي مفتاح عند مدخل بيتنا، وكيف اختبأتُ خلف جدّي ، أخافتني ملامحه الصارمة ، كان قصير القامة بالرغم من بدانة جسمه، وبروز بطنه ، بدا جدّي عملاقًا هائلًا قبالته ، أكثر ما أرعبني شكل شاربيه الكثين الطويلين من الجانبين ، لم أر شفتيه، فمه اختفى تمامًا ، قبضتُ بكلتا يديّ على قميص جدّي ملتصقًا به خائفًا حينما تكلم الرجل ، شاربان من الشعر الأسود يهتزان مع صوته الأجش :-
– عربة الأثاث قادمة خلفي ، لقد سبقتها ، أنت تعرف حمار سي أبي بكر ، أعجف ، لا يقوى على جرّ العربة ، لكنني لم أَجد غيره .
قال جدّي :-
– النهار طويل ، يا سي مفتاح حتمًا سيأتي ، الحجرة جاهزة . .
أخرج سي مفتاح محفظة جلدية مهترئة ، سحب منها ورقة خمسين قرشًا ، مَدّها إلى جدّي قائلًا:-
– هذا إيجار شهر .
عرفتُ أنه استأجر الحجرة الواطئة ببيتنا ذي الحجرات الخمس ،المسقوفة بسقف الصنّور ، خشيتُ الاقتراب منه ، خيَل إليّ أنه لا يبتسم أبدًا، يرعبني صوته كلما سمعته ينادي زوجته التي أظهرت توددًا كبيرًا تجاهي ، أغدقت عليّ عطاياها من الحلوى، والفاكهة ، صباحات الأعياد تعطّر ملابسي الجديدة بعطر سي مفتاح قائلة :-
– يحفظك الله يا حميدة، وإن شاء الله تكبر مثل سيدك مفتاح .
– كنت أتلذذ بطعم حلواها، لكنني لا أريد أن أكبر مثله، وأكون بقصر قامته مع شاربين مخيفين ، مع الوقت بدأت خيوط ألفة تنسجها الأيام بيني وبين سي مفتاح ، وعمتي خديجة ، صرتُ أقضي وقتًا طويلًا معهما كأنني ابنهما الذي لم يرزقا به وعرفتُ أن سي مفتاح يبتسم مثل الآخرين من وراء شاربيه الكثيفين ، وأن له شفتين ترتشفان ، وتصدران صوتًا تعبيرًا عن تلذذه بكأس شاي تسكبه يد عمتي خديجة من علوٍ ليفيض رغوةً برائحة النعناع .
– ذاك المساء قلق يحرّك قدميّ عمتي خديجة ، قبقابها الخشبي يهيل غبار الأتربة عبر المسافة بين حجرتها والمدخل ، عتمة بدأت تكسو أفقًا متخمًا بأسراب عصافير تنحدرعائدة نحو أعشاشها مع تلاشي احمرار بقايا شعاعات شمس منسحبة ببطء من نهايات أسطح البيوت القديمة ، كنت قريبًا منها أتابع حيرتها، سمعتها تخاطب جدّتي بنبرة حزينة :-
– – مفتاح تأخر كثيرًا يارحمة ، ليس من عادته ذلك ! لا يمكث بالمقهى إلى الليل، قلبي منقبض ، لابد أن أمرًا ما حدث !
– – خرجت جدتّي من حجرتها ، قالت :-
– – لا تقلقي يا خديجة ، ربما عرّج على قريب ، أو انشغل مع رفاقه.
– هزّت عمتي خديجة رأسها وقالت :-
– مفتاح ليس له أقرباء ، إنه مقطوع من شجرة ، قلبي ليس مطمئنًا .
– فجأة التحفت بردائها ، وانطلقت إلى الشارع بسرعة جنونية ما أثار دهشة جدّتي ، لحقتُ بها ، وقفتُ في الشارع أطاردها بعينيّ إلى أن ذاب شبحها متلاشيًا وسط الظلام .
————–

[ الجزء الثالث ] .. غابت عمتي خديجة عن عينيّ ، حلكة الظلام غطت شارعنا ، ساورتني الهواجس ، شعرت كأن العفاريت ، والغيلان التي طالما سَمِعْت عنها ، تكاد تهجم عليّ ، تتناسل من الظلمة ، تزحف نحوي لولا صوت جدّتي الذي أنقذني منها:-
– ادخل أيها الولد ، ماذا تفعل وسط هذا الظلام ؟ .
– ركضت مسرعًانحوها، كانت منحنية تمسح زجاجة مصباحنا الكيروسيني ، مالبثت إن أشعلت لسان الفتيل فانبعث ضوء أصفر باهت صبغ تجاعيد وجهها فبدت ليّ ملامحها أشد صرامة ، في الوقت الذي وقف جدّي عند مدخل حجرتنا المنخفضة قالت جدّتي تخاطبه :-
– – جارتنا خديجة قلقت على غياب زوجها ، خرجت مثل مجنونة في هذا الليل ، الحق بها .
– ضرب جدّي كفًا بكف ، هزّ رأسه ، تمتم :-
– – إلى أين ستذهب ؟
– ردّت وهي تدير لولب المصباح لرفع لسان شعلته :-
– – إلى المقهى بالتأكيد ، حاول اللحاق بها . اسرع .
– خرج جدّي ،تبعته من دون أن ينتبه إلى ذلك ، في الشارع عرّج على سي بوبكر صاحب عربة الحمار ، ثم على سي سعد الزوّاق ، أخبرهما بما حدث ، وصل الرجال إلى مقهى سي مفتاح بشارع سيدي الشريف ، كنت خلفهم ألاحقهم بهدوء وبطء مثل حمل وديع ، ثمة رجال ينتشرون أمام باب المقهى المقفل ، سمعت سي بوبكر يسألهم ، أخبره أحدهم بأن سي مفتاح حملوه إلى المستشفى الكبير بعد اندلقت عليه مياه ساخنة ، وتعرض لحروق بالغة ، توجه الرجال الثلاثة إلى المستشفي ، ضاعفت من سرعتي حتى لا أفقدهم .
– في المستشفى علمت أن سي مفتاح أدخلوه إلى العناية المركزة ، قلّبتُ بصري ، صدمني لون الجدران بطلائها الأصفر ، ذكّرني بضوء مصباحنا الباهت ، ووجه جدتّي الشاحب ، شعرت برهبة من المكان ، فجأةً لمحت عمتي خديجة متكومة على مقعد خشبي طاله شحوب اللون الأصفر ، وصبغها هي أيضًا ، لم انتبه ، انطلقت إلى جدّي ورفيقيه أدلّهم على مكان عمتي خديجة ، فاجأهم وجودي ، لمحت ذلك في نظرة جدّي المؤنِبة بعقاب مؤجل ، توجهوا إليها ، لم تفطن إلى وجودهم .خاطبها سي سعد :-
– – إن شاء الله لا بأس على مفتاح ، دفع الله ماكان أعظم ، شدّة وتزول ياخديجة ..
– أردف جدّي :-
– – اطمئني ، لن يُصاب مفتاح بمكروه ، سيُشفى بإذن الله ، هيّا عودي إلى البيت ، لا جدوى من بقائكِ في المستشفى بين الرجال ، أنا ، وسعد ، وأبوبكر سنسهر عليه ، نتناوب المبيت ، هيّا اذهبي إلى البيت سيرافقكِ. أحدنا .
– بكت عمتي خديجة حرقةً ، قالت متمتمة بصوت مكدود :-
– – لن أغادر المستشفى إلا مع مفتاح ، أو أموت هنا، لن أتركه وحده ، ليس لي أحد سواه ، وليس له غيري ، لن أذهب .لن أذهب . .
————–

[ الجزء الرابع والأخير ] غادر سي مفتاح المستشفى بعد أيام قضتها عمتي خديجة معه ، صدحت فضاءات بيتنا بزغاريدها – نحن أولاد الشارع – تطايرت فوق رؤسننا أنواع الحلوى، وما جادت به عمتي خديجة من عطايا ، تسابقت الأردية الزاهية تزين قوامها، مَحَى الكحل آثار سهد ثقيل ، عبق بخورها من جديد ،
عدتُ أجري لأتلقف فاكهة مواسم فرح كاد يغيب ، سمعتُ عمتي خديجة تقول لجدّتي ، وهي تبتسم :-
– الحمد لله الذي كتب النجاة لمفتاح ، يوم أن رجع إليّ مُعافَى شعرت بالدنيا تقيم أعراسها من أجلي .
علّقت جدّتي :-
– مافعلته ياخديجة لا تفعله أية امرأة مع زوجها.
– لم أقم إلا بالواجب ، مفتاح هو الزوج والأهل ، ليس لي في هذه الدنيا سواه ، اسمعي ، يارحمة ، بالأمس فاجأني بخبر سعيد ، اشترى لنا بيتًا ، سجّله باسمي .
– – مبروك
– ستتركوننا، ونفتقدكما كثيرًا.
– نحن أيضًا ، العشرة لا تهون بسهولة . مفتاح تمنى دائمًا أن يكون لنا بيت، اقتصد ووفر مالًا لسنوات من أجل تحقيق حلمه ،كان يقول لي دائمًا: أنتِ وحيدة ياخديجة ، أخشى أن تدركني المنيّة وليس لكِ بيت يأويك .أقول له بعد عمر طويل ، لا أريد بيتًا ، المهم أن نبقي معًا ، أنت بيتي الكبير المشمس بدفئك .
صمتت عمتي خديجة متأثرة بجملتها الأخيرة ، ثم تابعت :-
– أتوسل إلى الله في كل صلاة أن لا أتوجع بفقده ، داعية أن أسبقه في الأجل .
– قالت جدّتي معقبة :-
– الأعمار بيد الله ياخديجة .
– ****
بعد أيام كانت عربة سي بوبكر تقف أمام بيتنا بحمارها الهزيل ، مجموعة من رجال، وأولاد الشارع ينقلون أثاث سي مفتاح وعمتي خديجة إلى بيتهما الجديد.
لم تقطع عمتي خديجة صلتها بِنَا، ظلت تزورنا باستمرار إلى أن توفيّت جدّتي ، وتركنا بيتنا القديم الذي أمسى مهجورًا ، وكلما زرته خيّل إليّ أنني أسمعُ صوت عمتي خديجة مختلطًا بصفير دراجة سي مفتاح ونبرته ، رائحة البخور لازالت عالقة بالزوايا ، والأمكنة .
السنوات حملتنا مسافات عبر دورانها الخفي ، مات من مات ، شاخ من شاخ ، رحل من رحل ، وسط عشرات الوجوه العابرة بين سوق الجريد، وشارع بوغولة لمحتُ عمتي خديجة ، أو ما تبقَى منها، اقتربتُ منها ، أوقفتها ، نظرت نحوي بعين فردية بدت ثقبًا صغيرًا محفورًا ليطل على دنيا من ضباب خلال تجاعيد داكنة حلّت محل كحل ذاب واختفى مع زمن ولّى ، تلتحف برداء أسود مخطط باهت مهتريء ، لم تعرفني، وما إن ذكرت لها اسمي حتى ضمّتني بين ذراعيها لتسقط سلتها، وتتبعثر حاجياتها. قالت :-
– الله كم اشتقت إلى تلك الأيام في حجرتنا ببيتكم ، كانت حجرة صغيرة لكنها اتسعت بسعادتي مع عمك مفتاح – الله يرحمه ، و يغفر له – يا للحياة ، أرأيت يا أحميدة ، رحل وبقيت وحيدة ، بعد غيابه عرفت أن الأماكن لا تتسع بمساحاتها ، بل بمن نحبّ ، بيتنا الذي اشتراه بالرغم من حجمه أشعر أنه يضيق عليّ من دونه ، وحجرتكم الضيّقة كانت باتساعات الكون عندما كان مفتاح إلى جانبي يقاسمني لقمة نأكلها سَوِيًّا ، وهواءً نتنفسه معًا .
تحشرج صوتها، سعال متواصل خضّ جسمها النحيل ،بعد أن هدأت قالت : –
– منذ أن فارقني عمك مفتاح كل يوم أخرج من البيت أذرع شارع بوغولة حتى أصل إلى المقهى ، أجلس على الرصيف أتأمله ّ من بعيد ، أحسّ بوجوده يعدّ الشاي، والقهوة للزبائن ، يرتب الكراسي ، بالرغم من وهن ساقيّ وتثاقلهما إلا أنني أذهب إلى هناك في اليوم أكثر من مرة حتى بعد أن هدموا المقهى، وشيّدو مكانه محلات حديثة لم أقلع عن الذهاب ، العابرون يعتقدون أنني متسولة ، ذلك صحيح ، لكن ليس من أجل النقود ، إنما لأشياء لا يمكن للزمن أن يجود بها ، هذه عودتي للتّو من هناك ! .
قبضت على يدي بشدَة ، سحبتني معها، قائلة :-
– هيَا معي إلى البيت ،
لم أنس أن أرفع سلتها عن الأرض ، جمعتُ أشياءها ، شعرتُ بيدها النحيلة المعروقة تجذبني وسط تزاحم عابري السوق ، دخلنا زقاقًا متفرعًا من شارع بوغولة ، توقفت عند بيت صغير قديم . قالت من خلف أنفاسها التي تعالت :
– ها قد وصلنا ، هذا بيتنا ، الجيران في هذا الزقاق قليلون ،قليلون. جدًا ، لكنهم كُثر بأفعالهم ، يتفقدونني دائمًا .
أخرجت مفتاحًا صدئًا ، فتحت الباب ، أدخلتني ، للبيتِ رائحة القِدم ، دراجة سي مفتاح تتكيء في الركن على الجدار المتشقق، تأملتها متذكرًا ملامحه بشاربيه الكبيرين ، يبدو أنها عرفت مايجول بخاطري ، قالت :-
– دراجة عمك مفتاح -الله يرحمه – لازالت كما هي ، حتى سلة السعف في مكانها على الحامل الخلفي ، كل يوم أمسح الدراجة،ألمّعها ، وأنظر إليها ساعات وساعات ، في بعض الأحيان أسمع دوران عجلاتها ، كأنه يقودها وهو يحمل سلة السعف بفواكهها ، وخضرواتها، ولحمها ، وخبزها.أخاله آتيًا في أيّة لحظة .
عاودتها نوبة البكاء مصحوبة بسعال متقطع .
لم أعلق ، ارتباك مشاعري ، تقلّبت في. أعماقي أمواج غيّبت عني الكلام ،قالت مغالبة سعالها:-
– عرضوا عليّ شراء الدراجة لكنني لم أوافق ، رغم حاجتي للمال ، إنها قطعة منّي ، أراه فيها ، أشياء من نحبّ تظل غاليةً حتى وإن هم رحلوا،هي بعض من تفاصيل حياتنا الجميلة معهم .
تحرّكت من مكانها، في ركن الحجرة المعتم راحت يدها تتحسس الأشياء ، تابعت تخاطبني :-
-نسيت أن أسقيك شاي عمتك خديجة بالنعناع .
مالبثت أن تراجعت يدها، تمتمت :-
– اللعنة على النسيان ، ليس لدي شاي ،منذ توفِّي مفتاح أشياء كثيرة غابت ، الجيران كرماء ، لم يبخلوا عليّ بشيء ، لكن عِزَة نفسي تمنعني من أن أطلب منهم ، لا أودّ أن أبدو معوزة بعد أيام رخاء مع عمّك مفتاح .
هممتُ بالخروج لشراء شاي ،وبعض المتطلبات ، أحسّت بحركتي ، تشبثت بيدي ، قالت :-
– ابق ، لا تذهب ، دعني أحكِ ، أفضفض عما في قلبي .
تغوص عمتي خديجة في حكاياتها، تسترجع تفاصيل عمرجميل مع سي مفتاح تستعيده من عالمه البعيد .
ظللت أزورها كل يوم تقريبًا ، قالت لي ذات مرة :-
– اسمع ياولدي سأترك لك وصيّة عاهدني على تنفيذها بعد أن يأخذ الله أمانته .
– – بِعد عمر طويل .
استلت تنهيدة من أعماقها،قالت كأنها تخاطب نفسها :-
– العمر مهما طال لا قيمة له بعد غياب مفتاح . وصيّتي هذه الدراجة خذها ، احتفظ بهاعندك ،لا تفرط فيها مهما كانت الظروف .
اتجهت نحو صندوق ملابسها العتيق ، فتحته ، أخرجت أشياءً ،قالت :-
هذا حجاب ضد الحسد ورثته عن أميّ – رحمها الله – هذا عقد كان لها أيضًا به خرزة تدفع عنك الشر ،لا تنس احتفظ بها ..أخبرتها أنني مسافر خارج بنغازي لمدة أسبوعين حتى لا تقلق لغيابي ، أو تعتقد أنني أهملتها . . بمجرد أن عدت هرعت إليها، اشتريت لها رداءً من النوع الذي تفضله ، و قراطيس من بخور محبب إلى نفسها، وتشكيلة من فاكهة الموسم ، قلت في نفسي لا شكّ أن هذه الأشياء البسيطة ستبهجها . ماإن وصلت إلى الزقاق ، ووقفت أمام البيت حتى فوجئت بالباب مغلق من الخارج بسلسلة ، وقفل نحاسي، شعور بوجع غامض تملكني . تسمّرت في مكاني محاولًا إيجاد تفسير ، سمعت صوت رجل من خلفي :-
– لا يوجد أحد بالبيت .
– أين عمتي خديجة ؟
– – البقاء والدوام لله ، توفيٓت منذ أكثر من أسبوع .
صُدمت ، مادت الأرض تحتي ، وضعت يدي على رأسي ، تجمعت سحب من دمع محجوز داخل عينيّ الشاردتين . الموت يسبقنا دائمًا بخطوات أسرع منّا نحو من نحبّ ، خاطبني الرجل :-
– أأنت من عائلتهاّا؟
– جارة عزيزة ، وأنا بمثابة ابن لها.
يبدو أن الرجل تذكّر أمرًا ما، نطق باسمي، أكدّت له أنني أنا هو .
استدار متوجهًا إلى بيته ، وهو يقول:-
– – انتظرني لحظة !
– بعد دقائق ظهر يسحب دراجة سي مفتاح حاملًا صُرّة في يده ، قال لي :-
– إذن هذه الأمانة أوصت بها خديجة -الله يرحمها – أن نسلمها للاسم الذي ذكرت .
فتحتُ الصُرّة ، العقد بالخرزة الملّونة ، وسجّادة الصلاة ، ومسبحة ، وحجاب مَخيط بغلاف جلدي .
أضاف الرجل :-
– البيت استلمته دائرة الأوقاف ، أوصت به المتوفيّة أن يكون وقفًا، تبرعًا منها لوجه الله .اجعله في ميزان حسناتها .
تركتُ البيت خلفي ، حملتُ أشياءها ، شققت ُطريقي بصعوبة عبر زحام سوق شارع بوغولة ، أقودُ الدراجة إلى جانبي ، أزيزها لفت انتباه المارة ، أعين تحملق فيّ باستغراب ، ترمقني بفضول كما لو أن عجلات دراجة سي مفتاح تدور في زمن غير زمانها، وبرتابة لا تتوافق مع إيقاعاته المتسارعة .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق